من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

فقد شهدت المجتمعات الإسلامية في السنوات الأخيرة صحوة عارمة عمَّت الطبقات الاجتماعية كلها، وشملت فئات الناس على اختلاف توجهاتهم الفكرية، فعاد الكثيرون إلى الاستقامة والتدين بعد أن سئموا أنماط العيش المنقطعة الصلة بجوهر الإسلام، وأخلاقيات السامية، عقب تجربة طويلة مع حياة اللهو والعبث أدركوا بعدها كم كانوا يلهثون خلف سراب السعادة دون أن يجدوا لها أثراًº فكان لا بد من الإنصات إلى تلك الأصوات المنبعثة عبر الشريط الإسلامي، من بين هدير صاخب، وضجيج كاسح تبثه مئات الأبواق، من الإذاعات والفضائيات والقنوات الإعلامية المتنوعة!! 

وقد ساهم في نجاح الصحوة وترشيدها علماء ربانيون، ودعاة عاملون من خطباء، ومحاضرين، ووعاظ، وناصحين وركب الموجة بعض هواة الجاه والشهرة!!

ونجح بعض هؤلاء على وجه الخصوص في كسب قلوب الجماهير والتفافهم من حولهم حيث وجدوا فيهم ضالتهم وكنزهم المفقود!!

أليسوا هم الذين يذكرونهم صباح مساء بالفضيلة والمروءة والأنفة؟

أليسوا هم الذين يبشرونهم بفتح القسطنطينية، ووراثة عرش روما، وسيادة الدنيا؟ أليسوا هم الذين يعدونهم بجنات الخلود، وقصور الذهب، وأنهار العسل في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟ ! بلى، بلى، بلى !! ؟؟

فازدحمت الجماهير على عتبات المساجد، وهبت الجموع إلى رحاب البيت الحرام وغصت بهم فجاج مكة وخيام منى، وأعفى الرجال اللحى، واختمرت النساء بحجاب العفة، وأقبل الشباب على العلم، وانتشرت السنة، وكثرت مجامع الخير، وتعددت مكاتب الدعوة، وعمت جمعيات الإغاثة، وكفكفت دموع الأيتام، وكفلت الأرامل، وأنكر المنكر حسب الطاقة..!!

وفجأة حيل بين الداعية (المخلص!) وبين جمهوره الوفي!! وأسكت الصوت الشجي!!

وانفض المحبون مكرهين، يبحثون عن البديل الناجح وسيجدون لا محالة فالدين لا يتوقف على الأشخاص وليس البقاء إلا لله!!.

وبغتة وفي أقل من وميض الضوء، إذا بذاك البليغ المفوه والصوت المؤثر وحيداً فريداً رهين الصمت الرهيب!! 

وقد يُجامل أحياناً فيقدم في مجلس صغير أو باستراحة يؤمها رهط أو رهيط من المتعاطفين، وبضعة نفر من الجمهور المتبخر بفعل الأجواء الساخنة!!.

ويظل صاحبنا يقاوم الفراغ الهائل و (الجاه الذاهب!! ) والشهرة الآخذة بالذبول مردداً

وتجلدي للشامتين أريهم *** أنى لريب الدهر لا أتزعزعُ

 

فيمر العام والعامان، والثلاثة والأربعة.. !!!

ويبدأ حديث النفس الماكر، يطرق أسماعه المرهفة بصوت خافت آخذ في الارتفاع رويداً رويداً. ويلك ما فعلت؟

ويلك ماذا جنيت على نفسك؟

أهكذا تحرم (الأمة) صوتك المؤثر، وخطابك البليغ؟!!

ما ذنب الجماهير العطشى لطرحك المدهش، وفكرك الثاقب، ونظرك البعيد، وشعرك الدافي؟!! 

ويحك لم العجلة؟ أين الحكمة؟ أين الصبر؟ أين الحلم؟ أين الروية؟

أين الأناة؟ أين التربية؟ أين؟؟ أين؟..

ويحك يا رجل، كأنك لا تعرف العهد المكي؟ كأنك لم تقرأ آيات الصبر؟

أين أنت من صبر خير الأنام - عليه الصلاة والسلام -، وقد وضع سلى الجزور على كتفه،، وحصبه سفهاء الطائف حتى أدموا عقبه الشريف؟! 

الساحةٌ خالية، والناس محتاجون، والرجوع إلى الحق!! خير من التمادي في الباطل !!

وهكذا لا يجد الشيطان أدنى حرج في الجلوس مع (العلامة الحجة ّ!) بعد أن فقد مصداقيته، وتخلى عن أسباب شرفه وعزته، (يبيع دينه بعرض من الدنيا!!). 

ويعود الفارس إلى منبره الحزين، وبقايا الجمهور الملهوف فلا يسعه الحديث إلا في حدود محدودة، وقيود مشدودة، وموضوعات مجتها الآذان، وسئمتها النفوس!! 

ثم إن تحدث في صلب الموضوع الذي جاء ليسد الثغر الحاصل فيه، فهو إلغاء المسلمات وثوابت انعقد عليها إجماع المسلمين منذ قرون قبل أن يولد هو وأبوه وجده، فمظاهرة المشركين مسألة فيها نظر، وجهاد الأبطال الصابرين افتيات على الأمة، والبراءة من المشركين صدام مع الحضارات، وتبادل أفواج السياح بين أرض الإسلام والكفر، سياحة مشروعة وتبادل ثقافي وطيد، والقتال ضد المسلمين حق مشروع للجندي الأمريكي المسلم حتى لا يخسر وظيفته!

وصلاة الجماعة ليست واجبة!!

وأما بث حلقة تليفزيونية حية عبر الاستوديوهات الفضائية أثناء وقت صلاة العشاء فتلك مصلحة شرعية، وضرورة دعوية، لا تُفوِّتُ!! 

فيا هؤلاء كفى هراءً وصفاقة، وتوبوا إلى بارئكم واعلموا أننا بقدر ما حزنا على فقدكم آنفاً بقدر ما حزنا على عودتكم الآن، ولو رضيتم بما نلتم من البلاء الحسن والجهد المشكور لكان خيراً لكم من هذه العودة المخزية بلا مبدأ أو ضمير، أو خلق شريف!! 

وقد عرفت الجماهير الناصح الأمين من الباحث عن الجاه والشهرة فلا تفتنوا أنفسكم وتعرضوها للمقت والازدراء فإن مقت المؤمنين معتبر: ((كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا)).

 

إن العودة إن لم تكن بذات المبادئ الأصيلة والثوابت الراسخة فهي انتكاسة وليست بعودة فاتقوا الله وأنيبوا إليه قبل أن يحال بينكم وبين التوبة وتدركوا جيداً أنّ الله يمهل ولا يهمل وأنه لا يحابي أحداً مها عظم جاهه ((وَإِن كَادُوا لَيَفتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ لِتفتَرِيَ عَلَينَا غَيرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَولاَ أَن ثَبَّتنَاكَ لَقَد كِدتَّ تَركَنُ إِلَيهِم شَيئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقنَاكَ ضِعفَ الحَيَاةِ وَضِعفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَينَا نَصِيرًا))(سورة الإسراء: 75). 

ثم فرق وأي فرق بين من يعود عن خطأ أخطأه، وطرح أدرك عدم ظهور منفعته وبين من يتخلى عن ثوابت وأسس ومسلمات لا تقبل النقاش والمساومة، وختاما نقول: 

يا معشر القراء يا ملحَ البلد *** من يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟!!

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply