بسم الله الرحمن الرحيم
يدعي العديد من الكتاب الغربيين أن مفهوم الحرب المقدسة «الجهاد» هو مفهوم مستمر في الإسلام مع غير المسلمين، وأن لجوء المسلمين أحياناً إلى عقد بعض الاتفاقات التي قد تسمى في عصرنا الراهن بـ
(المعاهدات) أو (اتفاقات الهدنة) ما هي إلا وسيلة لالتقاط الأنفاس، وإعداد العدة لاستئناف القتال، ومباشرة الجهاد «الحرب المقدسة» حسب زعمهم، في نزعة مخاتلة، وخيانة ضمنية لكل الاتفاقات المعقودة ظاهراً.وقبل الخوض في تحديد ماهية هذه الادعاءات ومحاولة الإجابة عنها لا بد لنا أن نبين أن أي مشهد عربي أو إسلامي أضحت بلاده خاضعة بشكل أو بآخر تحت نير الاحتلال، فمواصلة الجهاد والكفاح لتحرير الأرض والإنسان وتحقيق السيادة والاستقلال هو واجب شرعي، لا يندرج في سياق حديثنا الآتي إلا من باب الضرورة ومقتضياتها المعروفة في أبواب الشريعة وفصولها، فإن اقتضت الضرورة عقد نوع من التهدئة أو الهدنة المؤقتة مع العدو بغية النظر في مآلات الأمور، وإعادة هيكلة الخطط وبلورة المواقفº فلا مانع حينها من ذلك شريطة الانضباط بالآداب والقواعد الشرعية المبثوثة في هذا الصدد، أما أن الحرب في الإسلام على غير المسلمين مستمرة، أو أن عقد هدنة أو صلح مع العدو ما هو إلا وسيلة لمخادعته ومخاتلته فهذا أمر تشهد نصوص الشارع وقواعده بنقيضه، فالأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم لا الحرب كما هو شائع في كثير من الأدبيات، والآيات الآمرة بالدخول في السلم أكثر من أن تحصى في هذه العجالة: ((يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان))(سورة البقرة: 208)، ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)(سورة الأنفال: 61)، ومن المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية الإيفاء بالعهود والعقود والمواثيق ((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود))(سورة المائدة: 1)، ومن المعاهدات الشهيرة في تاريخنا الإسلامي صلح الحديبية، وهو صلح على الرغم من شروطه المجحفة - ظاهرياً - إلا أنه كان فتحاً مبيناً، كما تبين ذلك من نتائجه فيما بعد، ولم يمنع ذلك المسلمين من الالتزام بشروطه والوفاء بها، بيد أن الصلح الذي قد تنتهي به الحرب في الإسلام إما أن يكون صلحاً مؤقتاً أو دائماً، وقد بحث الفقهاء شروطهما، وآليات تنفيذهما في كتبهم ومدوناتهم، فالصلح المؤقت أو ما قد يسمى بالموادعة أو المعاهدة أو المسالمة والمهادنة، وكما جاء في تعريف بعض الفقهاء: هو مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، وهو بذلك يقترب من التعريف القانوني للهدنة، إذ هي: كل اتفاق له أهمية سياسية بين قوات المتحاربين، لوقف القتال بصفة مؤقتة، أما الصلح المؤبد فهو عقد الذمة ذاته الذي يلتزم المسلمون بموجبه لغير المسلمين في بلاد الإسلام بحمايتهم، والذب عنه، وإقرارهم على دينهم وفي ديارهم، مقابل بذل الجزية من قبلهم، وما يعنينا في هذا الصدد بحث النوع الأول من الصلح لجهة تقرير أحكامه في الشريعة الإسلامية، فدعوة العدو إلى عقد هدنة أو موادعة يجوز قبولها إن تبدى لنا مصلحة حقيقية في عقدها، وإن ساورنا شعور خفي بقصد العدو للمخادعة أو المخاتلة ما دامت تلك الهدنة تحقق غاية ومقصداً شرعياً حقيقياً للأمة والدين: ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين))(سورة الأنفال:61 - 62)، ((فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم))(سورة التوبة: 7).
وكأي عقد ينظم طبيعة العلاقة بين طرفين كانا إلى أمد قريب متحاربين ومتصارعين، فلا بد أن تخضع تلك الموادعة أو المهادنة إلى شروط وضوابط، فمن جهة العاقد يشترط جمهور العلماء أن يكون متولي الاتفاق إمام المسلمين الأعلى أو من ينيبه عنه، فيما أجاز السادة الحنفية تولي فريق من المسلمين بغير إذن الإمام إجراءات ذلك إذا اقتضت المصلحة، أما عن طبيعة المصلحة التي يعتد بها، فقد تنوعت الآراء حيالها وتعددت، كأن يكون بالمسلمين ضعف على مستوى العدة والعتاد، أو العدد لمواصلة القتال، أو أن يرجى من الموادعة إسلام الطرف الآخر، أو بذل الجزية منه، إلى آخر ما هنالك من مصالح شرعية معتدة ومعقولة، تلك المصلحة التي قد تتحول إلى ضرورة يجيز الفقهاء معها دفع مبلغ مالي من قبل المسلمين إلى العدو، كما هو مثبت تاريخياً من همّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بدفع ثلث ثمار المدينة يوم الأحزاب ليخذل به فئة منهم، أما استمرار وجود المصلحة طيلة مدة العقد فلم يشترطه جمهور العلماء، وإنما أوجبوا وجود المصلحة لحظة إبرام العقد، فيما شرط ذلك السادة الحنفية - ولعل الشرط الأبرز في هذا السياق - والذي يشكل استكمالاً للشرط السابق يقتضي بخلو عقد المهادنة أو الموادعة عن الشروط الفاسدة بمختلف أنواعها، وضابطها مخالفة نص أو مقصد شرعي معتبر كاستباحة محرم ما، أو الإعانة على بلد مسلم آخر، ولما كانت الغاية من هذا النوع من الاتفاقات آنية ومحدودة فقد اشترط الفقهاء تأقيتها ولم يجوزوا تأبيدها إلى أجل غير محدود، وهو ما ينسجم مع طبيعة الاتفاق ذاته، إلا أنهم اختلفوا في تحديد المدة التي تجوز بها، فحددها السادة الشافعية بأربعة أشهر إلى ما دون السنة إن كان بالمسلمين قوة بدليل قوله - تعالى-: ((براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر))، ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح، وعللوا عدم جواز بلوغها السنة لأنها مدة تجب فيها الجزية، فإن كان بالمسلمين ضعف فتجوز لعشر سنين فقطº استناداً منهم إلى مدة صلح الحديبية، ومدة هدنته التي لم تتجاوز العشر سنوات، فيما لا يشترط جمهور الفقهاء تحديد زمن معين، وإنما تركوا ذلك لاجتهاد الإمام تقديراً للمصلحة، بدليل مصالحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر على أن يجليهم متى شاء، وقال لهم: (أقركم ما أقركم الله به).
ويجب بمقتضى العقد التزام الطرفين به، وعدم الإخلال ببنوده مهما يكن، بل إن الحفاظ عليه يعد من قبل المسلمين واجباً دينياً قبل أن يكون التزاماً تعاقدياً، وللماوردي الشافعي في كتابه الحاوي الكبير كلمة في هذا الصدد يقول فيها: «عقد الهدنة موجب لثلاث أمور: الموادعة في الظاهر، وترك الخيانة في الباطن، والمجاملة في الأقوال والأفعال»، قد يكون الظرف التاريخي وموازين القوى على الساحة في غير صالح العرب والمسلمين، وقد يصل بهم الإنهاك والضعف والوهن حداً يقضي عليهم بضرورة التقاط الأنفاس، وتنظيم الصفوف، وإعداد العدة، سيما إذا كان العدو مغتصباً لوطن، أو منتهكاً لسيادة، بيد أن الضوابط الشرعية التي شرعها الإسلام لتقنين هذه الحالة تضعنا مباشرة مع تراث ثري بمعالجة المبادئ الرئيسية الناظمة لحالة كهذه، وهي ضوابط بمجملها تسمح بمعالجة الوضع الراهن، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من وهن وخلل ظاهر، دون أن تعني بالنهاية تنازلاً عن حث مشروع، أو وطن سليب، أو سيادة منتهكة.
وإذا كان للضرورة أحكامها فإن الضرورة ذاتها كما صرح الفقهاء تقدر بقدرها، ولا يجوز التوسع في تقدير أبعادها وآثارها، خاصة إذا كانت تتعلق بسياق صراع حضاري ووجودي مع عدو غاصب وغاشم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد