مسلمو النمسا والحاجة إلى تنامي النفوذ


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 أشاد الرئيس النمساوي  هاينز فيشر  بالجالية المسلمة بالنمسا وامتدح اندماجها في المجتمع النمساوي مع محافظتها على ثقافتها الدينية، مشيرا إلى أن هذه الجالية تشارك بنشاط في بناء النمسا، وأن اندماج الجالية المسلمة في بلادنا مثال يحتذى به في جميع بلدان أوربا وفي مقدمتها بلدان الاتحاد، غير أن  هاينز  أوضح أنه يمكن للمجتمع النمساوي الاستفادة أكثر من وجود هذه الجالية إذا ما تسارعت محاولة دمجهم في البلاد ووجود اتحاد منظم يبحث عن مشاكلهم والسعي لحل هذه المشاكل.

 

 وتكشف هذه التصريحات الأجواء الإيجابية التي يتمتع بها المسلمون في النمسا والحقوق والامتيازات القانونية التي حققوها طوال السنوات الماضية، والتي يأتي في مقدمتها حقهم في أداء شعائرهم الدينية بحرية تامة، وتدريس مبادئ وتعاليم الدين الإسلامي في المدارس النمساوية الرسمية، وحقهم في الحصول على إجازاتهم الرسمية مدفوعة الأجر خلال عيدي الأضحى والفطر، فضلا عن حصول المسلمين المجندين في الجيش النمساوي على حق أداء الصلاة في غير أو قات التدريب الإلزامية، والسماح لهم بالخروج من وحداتهم أثناء تناول وجبة الإفطار خلال شهر رمضان.

 

 وقد جاءت هذه الحقوق نتاجا للاعتراف المبكر من قبل الدولة في النمسا عندما أصدرت السلطات قرارا في عام 1912 بالاعتراف بالإسلام دينا رسميا، بل إن الإمبراطور النمساوي حينذاك  فرانس يوسف  أعطى أوامر بإنشاء مسجد كبير في العاصمة فيينا بمئذنة كبيرة وقباب، وتبرع بمساهمة من ماله الخاص في بناء هذا المسجد. وقد جاءت هذه المبادرة لتؤكد احترام الإمبراطورية النمساوية للتعددية الثقافية والدينية المنتشرة في أركانها في ظل وجود البوسنة والهرسك ضمن أراضي هذه الإمبراطورية، بل ووجود فرقة مسلمة في جيشها.

وجدير بنا أن نذكر أن الإسلام قد دخل النمسا بشكل رسمي في أوائل القرن الماضي عبر وجود البوسنة والهرسك ضمن الإمبراطورية النمساوية، ووجود احتكاك بين أبناء البوسنة المسلمين وشعوب الإمبراطورية، كما شهدت الأعوام التي تلت الحرب العالمية الأولى انهيار الإمبراطورية النمساوية، تصاعدا في انتشار الإسلام.

وجاء المد الإسلامي إلى النمسا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث توافد عليها المسلمون كمهاجرين وعمال وتجار ودبلوماسيين من بلدان إسلامية شتى..من تركيا ويوغوسلافيا ومن الشام وشمال أفريقيا، لتصل أعداد المسلمين المقيمين في الأراضي النمساوية إلى 450 ألفا يشكلون المجموعة الدينية الثالثة في النمسا بعد الكاثوليك والبروتستانت، كما تقدر نسبتهم قياساً بعدد سكان البلاد البالغ 8 ملايين نسمه بنحو 5% يعيش أكثر من 15 % منهم في العاصمة فيينا والضواحي المحيطة بها.

 

 وتعد النمسا من أوائل الدول الأوروبية التي تحترم حقوق الأقليات خصوصا إذا أحسنت هذه الأقليات تنظيم حقوقها وإيجاد كيان قانوني لها، كما يعطي دستورها حقوقا ممتازة لهذه الأقليات في أداء شعائرها بكل حرية وإنشاء مساجدها ومؤسساتها مادامت تسلك الطريق القانونية.

 

هيئات ومؤسسات

 ورغم هذه الامتيازات، إلاّ أن المسلمين لم يستفيدوا منها في إنشاء عدد كبير من المساجد، فيكفي أن تعلم أن النمسا لا يوجد بها إلا سبعة مساجد، غير أن هذا العدد القليل يقابله إنشاء عدد كبير من المصليات في كل الولايات النمساوية حتى وصل عددها إلى 200 مصلى، ناهيك عن أن هناك إقبالا على إنشاء المراكز والمؤسسات والهيئات الإسلامية التي تشرف على الأوضاع المالية والإدارية والفنية للجالية المسلمة في النمسا، وعلى رأس هذه المؤسسات الهيئة الدينية الإسلامية التي يرأسها د. أنس الشقفة، والمجلس الإسلامي النمساوي الذي يرأسه د. حسن إسماعيل موسى.

 

ولا يواجه المسلمون في النمسا المشكلات التقليدية التي تواجه الغالبية العظمى من المسلمين في بلدان القارة الأوروبية، فأزمة الحجاب التي يعاني منها المسلمون في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى لم تحدث في النمسا حيث لا تفرض الدولة أي قيود على ارتداء الحجاب، وتتمتع المسلمات بحرية تامة في هذا الصدد انطلاقا من مبدأ المساواة مع أصحاب العقائد الأخرى التي يقرها الدستور النمساوي.

 

 ورغم هذه الأجواء الإيجابيةº فإن هناك دعوات متطرفة تحاول الانتقاص من هذا الحق، وقد ظهر هذا جليا في الدعوات التي أطلقتها وزيرة الداخلية النمساوية  كيزي يوركوب  لحظر ارتداء الحجاب في مؤسسات الدولة، إلا أن هذه الدعوة لم تؤت ثمارها وواجهت مقاومة شديدة من الجالية المسلمة بشكل أجبر وزيرة الداخلية النمساوية على تقديم اعتذار عن هذه الدعوة، بعد الحملة التي شنها عديد من الناشطات الإسلاميات اللائي جُبن جميع مؤسسات الدولة النمساوية الإعلامية والرياضية وحتى الكنائس لإظهار مخالفة هذه الدعوة للحرية الدينية التي ينص عليها الدستور النمساوي.

 

 وقد استغل المسلمون هذه الدعوة لفتح ملف شائك وهو ضرورة تبني البرلمان النمساوي لقانون يحظر التمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون، غير أن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح حتى الآن، رغم تقديم النائب المسلم في برلمان فيينا المحلي  عمر الراوي  مشروع قانون بهذا الخصوص، إلا أن وجود حزبي الشعب والأحرار اليمينيين المحافظين في السلطة حالا دون أن يرى هذا القانون النور، رغم تكالب هذين الحزبين على أصوات المسلمين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في الأشهر الأخيرة.

 

 إخفاق وفشل

 ويعكس هذا الإخفاق فشل المسلمين في إيجاد كيان سياسي يدافع عنهم، ويؤسس لوزن سياسي في المجتمع النمساوي، ويكشف كيف أثرت سيطرة اليمينيين على الحكم في النمسا لما يقرب من عقد على أوضاع المسلمين في البلاد، وكيف لعبت هذه السيطرة دورا في إيجاد تعقيدات على حق الحصول على وظائف للجالية المسلمة، وإدخال صعوبات عدة على قضية الإقامة، والسماح للمسلمين المقيمين بصورة شرعية في جلب أسرهم إلى النمسا.

 

ولا تقف مشكلات المسلمين عند هذا الحد، بل إن إقبال العديد من النمساويين على اعتناق الإسلام أثار حفيظة الجماعات والتيارات المتشددة والمتطرفة في النمسا من اليهود والكاثوليك، واندلعت حملاتهم المغرضة عبر عدد من وسائل الإعلام والمنتديات الفكرية من أجل تشويه صورة الإسلام والمسلمين بشكل أسهم في إذكاء مشاعر العداء والسخط ضد كل ما هو مسلم، وتنظيم اعتداءات كان أبرزها حادث الاعتداء على المركز الإسلامي في فيينا من قبل بعض النازيين والمتطرفين، كما حرص بعض الأساقفة الكاثوليك على توجيه دعوات تؤكد أن الإسلام في حرب وصراع مع الكاثوليكية متهما الإسلام بإثراء التعصب.

 

موضوعية

 وامتدت الحملة إلى خروج تقارير عن وزارة الداخلية تؤكد أن هناك عناصر إسلامية متطرفة تمارس أنشطة معادية للاستقرار والسلام الاجتماعي من داخل بعض المساجد والمراكز الإسلامية، غير أن هذه التقارير أكدت في الوقت ذاته أن هؤلاء لا يمثلون إلا أقلية إذا ما قورنت بمثيلتها في دول أوروبية، بل أشادت بالجالية المسلمة بوصفها من أفضل الأقليات الموجودة بالبلاد رغم وجود بعض العناصر المتطرفة التي لم يثبت تورطها في أعمال عنف حتى الآن.

 

 وربما يفسر هذا التقرير الطريقة المتوازنة والموضوعية التي تعاملت بها السلطات النمساوية مع الجالية المسلمة رغم وجود أجواء معادية للمسلمين في جميع أنحاء العالم بعد أحداث سبتمبر. ومع ذلك راعت النمسا الخصوصية الثقافية والدينية للجالية المسلمة، ناهيك عن مراعاتها للخط العام للسياسة النمساوية والذي ينطوي على بعد حضاري وثقافي عميق يتمثل في دعم أواصر الحوار مع الأديان والثقافات الأخرى، وإثراء لغة التفاهم والتقارب معها.

 

 وفي هذا السياق أيضا جاء الموقف المتوازن للحكومة النمساوية من أزمة الرسومات المسيئة للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، والذي جاء على لسان المستشار النمساوي  فولغانج سويشل  لدى افتتاحه مؤتمر إسلاميا بعنوان  الأئمة والمرشدات الدينيات ، والذي انتقد فيه تلك الرسومات بنفس الدرجة التي انتقد فيها الرسومات التي تسئ للرموز الدينية كالرسول والمسيح، معداً أن الحوار والتفاهم هو السبيل الوحيد لمنع تكرار هذه الأزمة في المستقبل.

 

 الأجواء الطبيعية نسبيا التي يعيش فيها المسلمون في المجتمع النمساوي لم يستطع المسلمون الاستفادة منها بالقدر المناسب، فالمسلمون حتى الآن لا يملكون وسائل إعلام خاصة بهم، ولا يوجد مدارس إسلامية بالمعنى المفهوم رغم أجواء الحرية السائدة، كما أن هناك مشاكل تواجه المسلمين رغم امتداح اندماجهم في المجتمع، حيث أثيرت ضجة حول قيام المستشفيات النمساوية بأخذ الأعضاء البشرية من جثث المسلمين عقب الوفاة دون علم ذويهم قبل دفنهم.

 

وقد ضربت الحكومة النمساوية باعتراضات الجالية المسلمة عرض الحائط بحجة أنها لن تخالف القانون ما دام المتوفى لم يوص بعدم التعرض لجثمانه، وهو ما جعل الجالية تلجا إلى حيلة بتسجيل وصايا بعدم التبرع بأعضائهم عند وفاتهم. وتعكس هذه المشكلة عجز المسلمين - رغم الميزات القانونية التي ينعمون بها - عن الاستفادة المثلى منها بسبب صعوبات ثقافية واجتماعية واقتصادية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply