في خضم المواجهة: طالبان تضرب بقوة في أفغانستان


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ساهم بُعد المسافة بين أفغانستان والمنطقة العربية في التقليل من أهمية تتبع الأخبار الواردة من الدولة القلقة الآسيوية، التي لم يلتقط تاريخها بعد أنفاسه من ثقل الصراعات والحروب التي سجلها على أراضيها، إلا أن حركة طالبان - جناح المقاومة الوطنية في البلاد ضد الاحتلال الأجنبي - أبت إلا أن تجذب انتباه العالم إليها، مستعينة بضراوة عملياتها العسكرية ضد الأمريكان.

فقد تصاعدت حدة عملياتها الهجومية بشكل كبير وملفت للنظر خلال الأشهر الأخيرة، سواء في مواجهة قوات الاحتلال الغربية بجناحيها (الأمريكي والأطلسي)، أو ضد القوات الحكومية الموالية لها في البلاد، وقد بدى للعيان أن الهدف الرئيس من الغزو الأمريكي الذي استهدف أفغانستان في أكتوبر 2001م يشتد عوده بمرور الأيام، وتزداد شراسته، ويقوى أمام عدوه.

ولعله ما دفع حامد كرزاي إلى دعوة زعيم الحركة الملا محمد عمر إلى المصالحة في 8 /1/2006م، والحوار مع حكومته في كابول، وهي الدعوة التي ردت طالبان برفضها معتبرة كرزاي "دمية أمريكية"، وقال الملا (عبيد الله آخوند) نائب الملا عمر ووزير الدفاع السابق في الحركة: إن "الدمية الأمريكية" كرزاي - الذي حوّل أفغانستان إلى قاعدة أمريكية، وقتل آلاف الأفغان - يجب أن يحاكم في محكمة إسلامية، وأضاف: سيكون خيانة للإسلام التوقف عن محاربة أمريكا، والملا عمر وطالبان ليسا مستعدين لتحمل هذا الإثم، وأكد أن الهجمات الفدائية سوف تستمر.

والثأر أصيل بين الحركة الإسلامية التي حكمت أفغانستان منذ أواخر 1994م، بعد إحكام سيطرتها على ما يقرب من 90 في المائة من مساحة الدولة، وبين قوات الاحتلال الأمريكية والغربية المتحالفة معها.

 

* مؤشرات على عودة طالبان:

شهدت الأشهر الماضية عدداً من المؤشرات الهامة تعكس سعياً حثيثاً من جانب الحركة الإسلامية السنية المقاتلة في أفغانستان لتنظيم وتوحيد صفوفها، وتشكيل تحالفات سياسية وعسكرية، وبناء قدرات تنظيمية وقتالية، وتشكيل واجهة إعلامية في مواجهة الاحتلال الأجنبي وأعوانه في البلاد.

1ـ تزايد العمليات العسكرية النوعية الناجحة في البر والجو:

حيث صعدت الحركة من عملياتها العسكرية ضد الحكومة الأفغانية الموالية والقوات الأمريكية والأوروبية، وحسب مراقبين للتطورات العسكرية فإن المقاومة الأفغانية بقيادة طالبان استطاعت في الآونة الأخيرة تحقيق نقلة نوعية في عملياتها ضد هذه القوات.

ومن المشاهد عبر ما تنقله وسائل الإعلام العربية والعالمية أن الحركة استطاعت تنفيذ عدد من العمليات النوعية ضد أهداف أرضية ثابتة كالقواعد العسكرية في باجرام، وأهداف متنقلة كدوريات قوات الاحتلال، وأهداف جوية كطائرات الهليكوبتر الأمريكية، واستطاعت أن توقع خسائر فادحة في قوات العدو، كان أكبرها إسقاط طائرة مروحية أسبانية وقتل الجنود الـ17 الموجودين في داخلها، وهي العملية التي تبعها إسقاط عدد من المروحيات الأمريكي، وقد اعترفت القيادة الأمريكية بإسقاطها على يد عناصر طالبان.

وتكشفت تلك العمليات - بحسب المراقبين - عن بعض التحولات المهمة على الصعيد العسكري، تمثلت في انتقال مسرح العمليات من جنوب أفغانستان - البيئة الأم للحركة وعناصرها - إلى شمال أفغانستان حيث تتركز قوات التحالف الشمالي، وهي المنطقة المعروفة تقليدياً بضعف نفوذ وسيطرة طالبان فيها.

وقد أخذ هذا التحول بعداً تنظيمياً من خلال تعيين طالبان قائداً عسكريا لولاية "فارياب" على الحدود الأفغانية مع تركمانستان - الملا محمد عاصم متقي -، بالإضافة إلى نائبين آخرين له بهدف تصعيد العمليات ضد قوات الشيوعي عبدالرشيد دوستم، مع التركيز في الجبهة الجنوبية على قوات الاحتلال الغربية.

كما هزت موجة من الهجمات شملت 14 تفجيراً جنوب وشرق أفغانستان - سجلت خلال الأشهر الأخيرة -، وشهد إقليم "هلماند" الجنوبي معارك شرسة بين القوات الحكومية ومقاتلي الحركة، وصرح حاكم ولاية "هلماند" أنه كاد أن يقع في أسر طالبان عندما أحاط 200 من مقاتلي الحركة به وحرسه البالغ عددهم 100 عنصراً، في أشرس قتال تشهده المنطقة.

وتتوقع القوات الأجنبية الموجودة في البلاد المزيدَ من العمليات العسكرية خلال المرحلة القادمة بالنظر إلى تصعيدِ الحركة من هجماتها، وكان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، اعترف بأنَّ هجمات المقاتلين لا تزال مستمرة، كما أكد أنَّ الطلعات الجوية التي تقوم بها القوات الأمريكية والأفغانية ضعيفة التأثير في مواجهة المقاتلين، وقال في هذا السياق: "عندما لا يكون لديك قوات كبيرة تتحرك على الأرض، أو لا تكون قوات العدو مركزة في تجمعات كبيرةº فإنَّ الغارات الجوية تكون ضعيفة التأثير".

 

2ـ حصول الحركة على أسلحة متقدمة من جهات خارجية:

ويرجع المراقبون النقلة النوعية في عمليات طالبان الهجومية إلى حصول الحركة على أسلحة متطورة وخاصة صواريخ (أرض - جو) ومعدّات أخرى معقدة، وتقنية في غالبيتها روسية وصينية الصنع، الأمر الذي من شأنه أن يعطي طالبان أبعاد وقدرات إستراتيجية في مواجهة قوات الاحتلال الأمريكية، وأظهرت عمليات نفذتها طالبان مدى ما يتمتع به عناصر الحركة من قدرة على استخدام صواريخ أرض جو، بينما أشارت مصادر إلى أن مقاتليها يمارسون تدريبات على أسلحة أكثر تعقيداً، وترى المصادر أن صواريخ "سام" الروسية والصينية أصبحت متوفرة وبأسعار زهيدة، وأن أفغانستان صارت سوقاً رئيسة لهذه الصواريخ، رغم وجود الاحتلال بعدته وعتاده، وتزعم بعض المصادر أن كل عملية اختطاف في أفغانستان تنتهي بإطلاق سراح رهينة تحصل طالبان منها على شاحنتين محمّلتين بالأسلحة، الأمر الذي يعني تأمين الحركة لمصادر التسلح، وتعدد هذه المصادر.

ويؤكد المراقبون على أن الأسلحة المتوفرة لدى حركة طالبان هي أسلحة متطورة نسبياً، وباهظة الثمن في الوقت نفسه، وهو ما أشار إليه شريط بثّته قناة "العربية" وتضمن صوراً لمقاتلين عرب وأفغان وأجانب يتهيئون لقصف مواقع أمريكية، ومزودين بأسلحة متطورة لا يمكن أن تكون متاحة بسهولة في أفغانستان.

 

3 ـ تنامي التحالفات السياسية والعسكرية للحركة في الداخل والخارج:

مع دخول قوات الاحتلال الأمريكية الأراضي الأفغانية تحول زعيم (الحزب الإسلامي) قلب الدين حكمتيار نوفمبر 2002 من أشرس خصوم حركة "طالبان"، والعدو اللدود لوجودهاº إلى حليفها الرئيس في هذه المواجهة المصيرية مع الغزاة.

ويعد حكمتيار واحداً من أقوى الزعماء الأفغان، وتأتي أهمية تحالفه مع طالبان في ضوء القدرات المالية، والخبرة العسكرية والعملياتية المهمة التي تتمتع بها قواته، والتي تكونت خلال فترة الجهاد الأفغاني ضد الغزو السوفيتي، وكان حكمتيار أبرز زعماء المجاهدين آنذاك، وبقدر ما تتمتع به قوات حكمتيار من تسلح جيدº فإن له قدرة كبيرة علي التأثير في الأغلبية السنية الباشتونية، فضلاً عن تمتعه بتأييد بعض العناصر الراديكالية داخل الجيش الباكستاني.

 

4ـ القبول الشعبي للحركة داخلياً في مقابل كراهية الاحتلال:

ونشير هنا إلى نجاح طالبان في توفير امتدادات وجذور قوية لها في البيئة الأفغانية والإقليمية المحيطة خاصة داخل الحدود الباكستانية والإيرانية.

وبرزت حالات تذمر كبيرة داخل الشعب الأفغاني ضد العمليات العسكرية الأمريكية بسبب الإصابات التي توقعها في صفوف المدنيين، وهو ما دعا الرئيس الأفغاني "حامد كرزاي" لأن يطلب من الأمريكيين وقف طلعاتهم الجوية، وحملات التفتيش في القرىº وذلك لتهدئة المواطنين الأفغان، وبدا من تصريحات كرزاي أنه يهدف لاستمالة الحركة لتهدئة عملياتها العسكرية، كما وضح أنه يأمل - من جانب آخر - في أن تلقى مواقفه صدًى لدى أوساط عشيرته "البشتون"، فالغارات الجوية وعمليات التفتيش التي تقوم بها قوات الاحتلال الأمريكية في الجنوب والشرق أثارت سخط المواطنين في هذا الإقليم الذي يعتبر من المعاقل التقليدية لحركة "طالبان".

ولم يكن الشعب الأفغاني بعيداً في ضوء المقارنات التي يقوم بها أبناء هذا الشعب بين وضعه الراهن ومرحلة طالبان التي تحظى بتقديرات إيجابية، خاصة فيما يتعلق بمستوى الاستقرار، والأمن، والتوازن السياسي، وتوافر الحاجات الأساسية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، ناهيك عن تزايد كراهية الوجود الأجنبي بين الأفغان.

ومن الدلائل العملية على مدى ما تتمتع به طالبان من قدرات تكنولوجية وحركية وقبول بين الشعبº قيامها بإعادة إحياء "إذاعة الشريعة" التي كانت وسيلة الإعلام الوحيدة إبان سنوات الحكم، حيث عادت الإذاعة للبث لتغطي أقاليم وسط البلاد، كما يمكن التقاطها في المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان.

وقد اعتبر إعادة إحياء "إذاعة الشريعة" - في حينه - والذي تم بنصب هوائيات بث في مناطق عدة من قبل فنيين ومهندسين تابعين لطالبانº رداً على تصريحات كان قد أدلى بها الجنرال "ديفيد بورنو" القائد العام لقوات الاحتلال، وزعم فيها أن الحركة تفتقد للدعم الشعبي، وأنها باتت ضعيفة وإلى انتهاء، وقد وصف المتحدث باسم الحركة عبد اللطيف حكيمي إعادة بث إذاعة الشريعة بالتطور اللافت الذي يؤكد أن طالبان لا تزال قوية ومنظمة للغاية، الأمر الذي يفضح الأكاذيب الأمريكية بأن طالبان قد انتهت، وكانت الإذاعة قد بدأت البث بإذاعة بيان للملا محمد عمر بقراءة أحد مذيعيها، حثّ فيه الأفغان على مواصلة الجهاد.

 

5ـ الفشل الأجنبي الواضح في المواجهة:

وفي خضم المعارك المستمرة والمتلاحقة من قبل طالبان - الحركة الإسلامية التي ترى في التهدئة مع المحتل ذنب وكبيرة تتنزه عنها بدوام القتال - لم يستطع الأمريكيون إخفاء الاعتراف بالفشل في مواجهة الحركة، وما تبديه من شراسة واستبسال في المواجهة.

وهو ما بدا في العجز الأمريكي عن القضاء على الحركة، أو الوصول إلى قادة أشرس مقاومة عسكرية ضدها في آسيا (الملا عمر، أسامة بن لادن، أيمن الظواهري، قلب الدين حكمتيار)، حيث لم تفلح تلك القوات الأجنبية بما تتمتع به من تكنولوجيا حديثة وعتاد في العثور على أي من هؤلاء القادة، رغم عمليات المطاردة التي تشنها منذ خمس سنوات بمعاونة الجيش الباكستاني، والقوات الحكومية الأفغانية.

وفي هذا الإطار كان زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار بث شريطاً مسجلاً قال فيه: إن القوات الأمريكية خسرت الحرب في أفغانستان، وستغادرها، كما أنهم فقدوا معنوياتهم في العراق، وحث الشعب الأفغاني على الانضمام للجهاد، وإعلان الحرب المقدسة ضد القوات الأجنبية لطردها من البلاد، وقال: "إن المقاومة وصلت إلى مرحلة بحيث أصبح من المستحيل القضاء عليها".

 

6 ـ فشل الحكومة الموالية للاحتلال بقيادة كرزاي:

لم يكن وصف طالبان للرئيس الأفغاني الموالي للاحتلال حامد كرزاي بالـ"الدمية الأمريكية" بدون مدلول، فالرجل حريص كل الحرص على بقاء القوات الأجنبية في بلاده إلى الأبد - لو استطاع -، وهو ما عبر عنه في أكثر من مناسبة، وكان آخرها في منتدى (دافوس)، حيث زعم في مؤتمر صحفي أن بلاده في حاجة إلى بقاء القوات الأجنبية ما بين خمسة إلى عشرة أعوام وربما أكثر.

ولم يجد المشروع الأمريكي في أفغانستان من يساهم في تكريسه من بين أبناء الشعب الأفغاني أفضل من حامد كرزاي، ذلك أن أمنه ووجوده ومستقبله السياسي مرتبط بنجاح هذا المشروع، ولا يخفى على أي متابع للشأن الأفغاني فشل نظام كرزاي في إثبات وجوده الحقيقي داخل البلاد، ولا يكاد كرزاي يخرج من هزيمة سياسية حتى يلقى أخرى، ومن بين تلك الهزائم التي مني بها انتخاب يونس قانوني المرشح السابق للرئاسة ضد كرزاي - وهو من الطاجيك - رئيساً لمجلس النواب بغالبية الأصوات بعد فوزه على زعيم إحدى الفصائل المتحالفة مع حامد كرزاي، وكان قانوني من كبار زعماء التحالف الشمالي، وعين وزيراً للداخلية في حكومة كرزاي المؤقتة، وفترت العلاقات بين الاثنين عندما نقله كرزاي إلى منصب وزير التعليم عام 2002، ثم استقال بعد أن أعلن ترشيح نفسه في انتخابات الرئاسة كمنافس لكرزاي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply