في مواجهة التغريب قراءة في فكر عبد الله النديم وكتاباته


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لئن دشنت مدافع نابليون أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، بداية حملة غربية تقودها (فرنسا)، في ذلك الوقت، على أمتنا العربية الإسلامية، بغية استئناف الأحلام الغربية بغزو العالم و«تحضيره» و«تنويره» وفق النمط الأوروبي، الذي يرى الإنسان الغربي محور الكون وقطبه الأوحد، أقول: لئن اعتبر كثير من المثقفين والباحثين حملة نابليون تلك مفتتح عهد استعماري جديد، فإن تلك الحملة، وكما يراها عدد من مثقفينا المبهورين بالحضارة الغربية والمولعين بإنجازاتها، كانت في نظرهم نقطة البدء لتعرف أمتنا على الحضارة الغربية، ودخولها تالياً في العصر الحديث وعلومه ومنجزاته عن طريق التلاقح الفرنسي وما نتج عنه من نشوء ما عاد يعرف في أدبياتنا بـ(اليقظة العربية) من قبل القوميين العرب، أو (النهضة الإسلامية الحديثة) من قبل الإسلاميين.

وعلى الرغم من تحفظنا إزاء اعتبار ذاك التاريخ مرحلة تاريخية تدشينية للنهوض واستنهاض الهمم، فمتى كان غزو أمة لأخرى لحظة تاريخية فارقة لصالح نهضتها وتقدمها، ما لم يشكل ذاك الغزو حالة مستفزة بالمعنى الإيجابي للكلمة؟، إلا أننا نتفق في النهاية على أن تدشين عصر اليقظة العربية أو النهضة الإسلامية الحديثة، مع انطلاق مدافع نابليون على مصر، كان بداية مرحلة جديدة من الغزو الغربي لأمتنا، ونوعاً مميزاً منه، امتاز بطغيان الجانب الثقافي والحضاري فيه على الجانب العسكري الذي طالما دحرته الأمة، وامتلكت تجاههه مناعة مكنتها من هزيمته ودحره ولو بعد حين.

ذلك الغزو الثقافي والحضاري الذي حرص الاستعمار الحديث على المضي قدماً فيه جنباً إلى جنب مع الغزو العسكري التقليدي، كان يستهدف هذه المرة استنبات نبت هجين، ينتسب إلى هذه الأمة بالاسم والمولد والجنسية، ويتبنى قيم الحضارة الغربية ومقولاتها ومبادئها في جوهره وحقيقته، سعياً منه لطمس ملامح هويتنا الحضارية التي استعصت على سادته الغربيين من خلال العمل العسكري، في محاولة لعولمة الأرض وفق النموذج الغربي، وفي إطاره المعرفي والثقافي الذي لا يرى بديلاً عنه أو حتى مكافئاً له.

لقد تصدى أبناء هذه الأمة لمحاولات التغريب والإلحاق الثقافي القسري بالقطب الغربي الأوروبي بداية، والأمريكي تالياً، وكان في مقدمة أولئك (عبد الله النديم) الذي سوف تدور سطور هذه المقالة عنه وعن فكره ورؤاه الإستراتيجية في هذا الصدد، من خلال مطالعة واستقراء أهم نتاجه الفكري وكتاباته.

ينتمي(عبد الله النديم) أو (عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسني 1845ـ 1896م) فكرياً إلى تيار الجامعة الإسلامية الذي أسسه الشيخ جمال الدين الأفغاني، - رحمه الله تعالى -، وقد كان تلميذاً نجيباً له ولفكره وآرائه، ولد بالإسكندرية، وكان شاعراً وخطيباً وسياسياً مجاهداً، وذا قدم راسخة في ميادين العلوم الإسلامية وعلوم العربية الفصحى، وكاتباً بارزاً باللهجة العامية، شارك في الكتابة في صحافة تيار الإحياء والتجديد الذي تزعمه الأفغاني، فكتب في صحف (المحروسة) و(العصر الجديد). كما شارك في الثورة العرابية، وكان من أبرز خطبائها، وأصدر إبان الثورة صحيفة (التنكيت والتبكيت) و(الطائف) التي حلت محلها ومثلت لسان حال الثورة.

إثر هزيمة الثورة العرابية إزاء التدخل العسكري الإنكليزي في مصر، طاردت سلطات الاحتلال (النديم)، فاختفى لمدة عشر سنوات، وبعد القبض عليه، حبس أياماً ثم نفي إلى فلسطين حتى عفى عنه الخديوي (عباس حلمي الثاني)، فعاد إلى مصر وأصدر مجلة (الأستاذ). ثم نفاه الإنكليز بسبب مقالاته فيها إلى فلسطين ثانية، فذهب إلى الأستانة (استانبول) وصحب أستاذه الأفغاني حتى وافاه الأجل ودفن هناك، وله من المؤلفات الفكرية والأدبية ما ينوف على العشرين مؤلفاً.

لقد كان (النديم) مهجوساً بالسؤال الذي شغل بال مفكري عصره وأقض مضاجعهم عندما تعرفوا إلى الحضارة الغربية، والمتلخص بسر تخلفنا وتقهقرنا الحضاري إزاء تقدم أوروبا والغرب، ولعل كتاباته في هذا السياق من أقدم المحاولات النقدية الجادة للإجابة على هذا التساؤل المفتاحي، واعتبر(النديم) في هذا السياق أن جذور تراجعنا الحضاري ترجع إلى عوامل داخلية ذاتية منها: «حكم التغلب وسلطان الاستبداد، وتجزئة السلطة وتشرذم الأقاليم في ديار الإسلام، وتراجع سلطان العلماء، وتأثير المؤسسات العلمية والتعليمية، وضيق السلاطين بالحرية الفكرية، وتضيقهم على أرباب الأفكار الحرة وأهل الاجتهاد والتجديد»[1].

ولم يهمل (النديم) دور التدخل الخارجي والغزوات الهمجية التي تعرضت لها حضارتنا وأمتنا على يد كل من المغول والصليبين، فأوقفت سير تقدمنا وشغلت الأمة بمهمة الدفاع عن وجودها وكيانها إزاء الأخطار المحدقة بها.

ولم يكن(النديم) داعية لمطلق التقدم والنهوض فحسب، بل كان داعية وعلى استبصار مشهود منه وله، إلى تقدم يوقف تيار أوروبا ويضارعها قوة وعلماً، تبصراً منه بالأخطار الحقيقية الكامنة وراء الغزوة الفكرية والعسكرية التي كانت تشنها أوروبا على أمتنا في ذلك الوقت، ولا تزال.

وهو وإن كان يؤخذ على كتاباته تأثرها وانطباعها برؤية ِأستاذه الأفغاني حول مستقبل الصراع بين أمتنا والحضارة الغربية وصياغته على أساس كونه صراعاً بين (الشرق) و(الغرب)º معتبراً بذلك «الدائرة الشرقية»، كما أستاذه الأفغاني، دائرة انتمائه الحضاري، لا الإسلام وحده، إلا أنه مع ذلك اعتبر الدولة العثمانية بوصفها كبرى دول الشرق وحامية حماه ضمن إطاره الحضاري و«جامعته الشرقية» على حد تعبيره، جامعة للأجناس والأعراق والقوميات الإسلامية وغيرها، والسياج الذي يتعلق به الشرقيون، على حد تعبيره، اتقاء للخطر الاستعماري الزاحف على ديار الإسلام والشرق عموماً، ومن هنا كان تأييد تيار الجامعة الإسلامية وزعيمه الأفغاني للدولة العثمانية، مع المناداة بضرورة إصلاحها من الداخل والسعي إلى تجديد طاقاتها واستعادة دورها الريادي والحضاري.

وإذ يعترف(النديم) بدور الغرب في إيقاظ الأمة بمعنى إيقاظ المقابل الحضاري لمقابله، ولعبه دور(المستفز الحضاري) للأمة، فإن ذلك لم يغيب عنه ضرورة صياغة مقومات الانتماء وثوابت النهوض التي لا يجوز التفريط فيها ولا التنازل عنها، والتي رآها في: حفظ المظهر والوجاهة، وحفظ الثروة من صناعة وتجارة، وحفظ الوطنية وحقوقها وواجبات أهلها، وحفظ الجنسية بعدم التقليد والاتباع لمحسنات الغير ومجاراته في أقواله وأفعاله، وحفظ اللغة التي هي أداة الحفاظ على الأخلاق وتحسين العادات والمألوفات، وحفظ الدين الذي يمثل حفظه الجامعة الحافظة لكل مقومات الانتماء.

ويركز(النديم) بشكل واضح في معالجته لهذه العناصر على كل من (الدين) و(اللغة)، فالإسلام، «هو مرجع المجد وأصل الشرف»[2]، وهو«أقوى دعائم العمران، والسبب الوحيد في المدنية وتوسيع العمران أيام كان الناس عاملين بأحكامه»[3]. و«ليس هناك حبل متين تقاد به الأمم غير الدين»[4]. وهو بذلك يتصدى لمن ادعى رد سبب تخلف المسلمين وتأخرهم من قبل الأوروبيين إلى الإسلام، كاشفاً عن دوافع تعصبهم الديني إزاءه، ومن هنا جاء دعمه ووقوفه إلى جانب الدولة العثمانية لكونها تقف في مواجهة ذلك ولو ظاهرياً، «فلو كانت الدولة العثمانية مسيحية الدين، لبقيت بقاء الدهر بين تلك الدول الكبيرة والصغيرة، ولكن المغايرة الدينية، وسعي أوروبا في تلاشي الدين الإسلامي، أوجب هذا التحامل»[5].

ورأى (النديم) في «اللغة العربية» ثابتاً هاماً من ثوابت الهوية الحضارية التي لا يجوز المساس بها إطلاقاً، لأنها«لسان الدين» و«ترجمان الوطن»، وعنوان الحفاظ على الهوية الحضارية لأمتنا، وواجه النديم آنذاك التحديات التي هددت اللغة العربية من قبل المتغربين وأبواق الاستعمار وغيرهم، وقد تمثلت تلك التحديات في كل من اللغة التركية التي حاول حزب الاتحاد والترقي فرضها على البلاد العربية، واللغات الأوروبية التي زحفت على الأمة في ركاب الاستعمار ومدارس التنصير والتبشير، وتحدي اللهجة العامية التي سعى أجراء التعريب إلى استبدالها باللغة الفصحىº تمهيداً لإزاحة الإسلام والقرآن والتراث وطمس الهوية الحضارية المتميزة لأمتنا.

وعلى الرغم من حالة الصراع الفكري والسياسي التي كان يعيشها النديم في مواجهة الاستعمار الإنكليزي وأبواقه من المتغربين والعلمانيين، إلا أن ذلك لم يحل بينه وبين الاعتراف بالوجه الآخر للحضارة الغربية، وقيامها على مستوى متقدم من العلم والتطور المدني والحضاري، وهو لم يدع يوماً إلى رفض ذاك (الآخر) أو ما قد يأتي منه من معارف وتقنيات وعلوم، بل دعا إلى الأخذ بعد تفحصيه وسبر أغواره ومدى ملاءمته لحضارتنا وهويتنا ومبادئنا وقيمنا الأصيلة.

وكان (النديم) يخوض معركة المواجهة مع تيار التغريب ودعاته على قدم وساق، وبالتوازي مع مواجهته للخطر الاستعماري والغزو الثقافي المباشر، فخاض معاركه الفكرية والثقافية مع خريجي مدارس التبشير ممن عرفوا باسم (المسيحيين الشوام)، أصحاب مجلة (المقتطف) وجريدة (المقطم) من أمثال: (يعقوب صروف، وأمين شميل، وشبلي شميل، وشاهين مكاريوس)، وأضرابهم ممن وهبوا أنفسهم للمحتل وثقافته، ومارسوا التبشير بثقافته وحضارته والتشكيك بهوية الأمة وحضارتها وقيمها وحتى كتابها، وكان النديم يصنف جريدة (المقتطم) ضمن «الجرائد الإنكليزية التي تصدر في مصر»، وكتابها بالأجراء الخونة، عملاء الأجانب الذين خانوا أوطانهم وسلطانهم وأهلهم ودينهم، ممن تعلم في مدارس الغير وباع نفسه لها، بل إن نصب النديم نفسه لمواجهة دعاة هذا التيار وأفكاره كان سبباً مباشراً في إرجاف أولئك الأجراء لدى المحتل وحمله على نفيه خارج مصر، مازجاً بذلك النديم بين الجهاد الفكري والجهاد السياسي.

لقد مثل (عبد الله النديم) من خلال كتاباته ونتاجه الفكري والثقافي نموذجاً صادقاً عن رجالات أمتنا الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فحملوا لواء المنافحة عن هوية الأمة ورسالة حضارتها، والتأكيد على مضمونها الإنساني والشمولي للإنسانية جمعاء، في مواجهة كل من الغزو الثقافي الذي رافق الاستعمار العسكري المباشر في ذاك الوقت، وما أشبه اليوم بالأمس، وتيار التغريب الذي اصطنعه الاستعمار الغربي لنفسه وزرعه كالسرطان الخبيث في جنباتنا لينهش في يقيننا بصلاحية ديننا، ويطعن في حضارتنا وإنجازاتها الباهرة. وإذا كان النديم في ذلك العصر قد حاول الإجابة على أسئلة على عصره، وواجه التحديات المحدقة بأمته، فإن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة الآن مع تشابه المعطيات والظروف والأسئلة الكبرى المطروحة علينا الآن، وبعد حوالي القرنين من الزمن، ينحصر في التساؤل عن السر في تشابه الظروف والمعطيات والتحديات التي تواجهنا اليوم بتلك التي واجهت أمتنا وحضارتها مطلع يقظتها الإسلامية منذ قرون، وعن مدى مشروعية الإجابة عليها بالأساليب والإجابات التي قدمها جيل التيار الإسلامي في ذلك العصر، وبالتالي، فهل يعني تكرار الأسئلة والتحديات التي نواجهها خللاً ما في صياغة إجاباتنا عليها سالفاً، أو استمراراً وتكراراً لها من قبل (الآخر) الذي يصر على طمس هويتنا واستقطابنا في فلكه ودائرته الحضارية؟. وهل تكفي العدة المعرفية التي تزود بها رواد مواجهة الغزو الثقافي وأبواقه من المتغربين لمواجهة السعار الغربي الموجه ضدنا؟ أسئلة كثيرة تنتظر منا مزيداً من التأمل والتحليل والتدبر.

 

----------------------------------------

[1] - مجلة الأستاذ، العدد الخامس عشر، ص 348.

[2] - مجلة الأستاذ، العدد الثاني والعشرون، ص 519.

[3] - مجلة الأستاذ، العدد الخامس والعشرون، ص593، والخامس عشر، ص352.

[4] - مجلة الأستاذ، العدد السابع عشر، ص394.

[5] - مجلة الأستاذ، العدد الثاني والعشرون، ص513.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply