بسم الله الرحمن الرحيم
كان تنفيذ الرئيس الأمريكي جورج بوش قراره بغزو العراق في مارس 2003 نقطة الانطلاق نحو إعادة احتلال ليس فقط الأراضي العراقية - كما هو حاصل الآن - وإنما احتلال أو لنقل إعادة احتلال الأراضي العربية في مجملها، وربما يضم أيضاً أراضى لدول إسلامية أخرى أصبحت شوكة في ظهر الإدارة الأمريكية تود الخلاص منها، كما كان ذلك نقطة انطلاق نحو تمكين الكيان الصهيوني من بسط إرادته ونفوذه على ثروات العرب، وذلك فيما كشف عنه بوش مؤخراً في رغبة أميركا في إقامة ما أسماه بـ"الشرق الأوسط الكبير"، واتخذت هذه الرغبة شكل(المبادرة) التي لا هدف لها - كما يدعى بوش - سوى إحداث نقلة نوعية لمنطقة الشرق الأوسط للانتقال من عهود الديكتاتورية إلى عصور الحرية والديمقراطية وهو الشق الأول لمبادرة بوش، وكذلك تمكين الشعوب من التحكم في ثروات بلادها وهو ما يسميه بالرخاء الاقتصادي للمنطقة وهذا هو الشق الثاني في مبادرته.
بوش يمهد للمبادرة:
في بادئ الأمر حاول بوش التمهيد لطرح الأفكار الأمريكية المجهزة لمنطقة الشرق الأوسط مسبقاً فقال: إن المنطقة بحاجة إلى إجراء تغييرات جذرية، وإن الإدارة الأمريكية ستقوم بذلك لتحويل المنطقة إلى منطقة فعالة تساهم في بناء الحضارة المعاصرة، وحتى يحدث ذلك لابد من تغيير شقين أولهما: تغيير الأنظمة الديكتاتورية في البلاد العربية، وإجراء إصلاحات سياسية في البلاد الأخرى لتدعيم أسس الديمقراطية، وثانيها: تحقيق الرخاء الاقتصادي لشعوب المنطقة التي عانت الكثير من سيطرة طبقة فاسدة على ثروات بلادهم، حتى أن وزير خارجية أميركا لم يُخف ذلك، وقال صراحة في أحد المؤتمرات - التي عقدت لتبرير الحرب على العراق - إننا نهدف إلى تغيير خريطة منطقة الشرق الأوسط.
ثم لم يلبث أن أصبح الأمر جدياً ولم يعد بحاجة إلى التريث والتمهيد، فانتخابات الرئاسة الأمريكية لم يبق على إجرائها سوى بضعة أشهر، وكان إعلان الرئيس الأمريكي في خطاب له عن نيته في إقامة منطقة تجارة حرة أمريكية شرق أوسطية تضم (الكيان الصهيوني، البلاد العربية، إيران، أفغانستان، وباكستان)، ولذلك سميت منطقة تجارة حرة شرق أوسطية وليست عربية خالصة لتضم في ذلك الدول التي ترغب أميركا في إدخالها الحظيرة الأمريكية الكبرى، كما أنها ليست عربية أيضاً لتضم الكيان الصهيوني ولتفرضه على البلاد العربية، وعدد بوش الفوائد التي ستجنيها الدول العربية من إقامة مثل تلك المنطقة التجارية الحرة من تبادل للسلع، ورفع الحواجز الجمركية على واردات البلاد العربية وهكذا، وبالفعل هللت الدول العربية فرحاً بهذا الاقتراح، كما أن الأوساط السياسية لدى الكيان الصهيوني لم تصدق أن الحلم بدأ يأخذ طريقه للتحقيق بأيدي حليفتها الكبرى أميركا، إلا أن بوش لم يقنع بذلك، وبدأ يخطط لإعلان الرغبة الأمريكية المسلحة وهى تغيير خريطة الشرق الأوسط اقتصاديا وسياسياً، وزادت الضغوط بسبب قرب انتخابات الرئاسة الأمريكية ما جعله يعلنها على الملأ برغبة أميركا في إقامة ما يسمى بـ"الشرق الأوسط الكبير" وهو الحلم المشترك الأكبر للصديقتين أميركا وإسرائيل وذلك عن طريق إقناع الدول الكبرى التي تمثل الدول الصناعية الكبرى في العالم - وهم سبع دول - بضرورة الاتفاق على التكاتف من أجل إجراء هذا التغيير في المنطقة، وإقامة الكيان الجديد، وقرر بوش أن يقنع زعماء الدول الصناعية الكبرى بالرغبة الأمريكية وذلك في اجتماع تحتضنه أميركا في يونيو المقبل في إحدى الولايات الكبرى.
تقرير التنمية البشرية:
استند بوش في البناء الدرامي لمبادرته إلى تقرير التنمية الإنسانية لعامي 2002، 2003 والخاص بالعالم العربي، لكنه اختار - بلا شك - منه ما يناسب مبادرته، ومع أن تقرير التنمية - الذي تصدره الأمم المتحدة - يشير إلى أن الاحتلال الصهيوني عائق أساسي أمام التنمية في العالم العربي، إلا أن المخطط الأمريكي عمد إلى إغفال هذه النقطة في طرحه للمبادرة، ولعل بوش حين بدأ خطابه الخاص بإعلان المبادرة أراد أن يمارس دوراً كبيراً يمثل من خلاله دور الساحر الذي بعصاته السحرية يستطيع إنقاذ العالم من المعضلات المهنية التي يغرق فيها، فقال: إن مجموع الإنتاج المحلى الإجمالي لكل البلدان العربية أقل مما هو في أسبانيا، واستخدام شعوبها للإنترنت أقل من استعمال شعوب أفريقيا الواقعة إلى جنوبي الصحراء"، ثم استدرك قائلاً:" إلا أن للعالم العربي تقاليد حضارية عظيمة لكنها مفقودة في مجال التقدم الاقتصادي".
وعدد بوش ما جاء في التقرير السنوي للتنمية الإنسانية الذي تطرق إلى الممارسات الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وممارسة الحريات العامة في هذه البلدان، وحق الفرد من التعليم، ثم عاد بوش مرة أخرى للضغط على هذا الوتر الحساس عقب احتلاله للعراق، وأعلن رغبته في طرح مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" على مجموعة دول الثمانية في يونيو المقبل، وحدد ورقة عمل يقدمها للمجموعة على أنها ضرورية للمنطقة التي يجب تضافر الدول الكبرى لتنفيذ بنودها، وقسم أولويات العمل فيها إلى:
1- تحقيق الرخاء الاقتصادي: وبذلك خرجت المخططات الأمريكية المعدة مسبقاً إلى حيز التنفيذ في أوائل العام 2004 ليبدأ معه عام الشرق الأوسط الكبير بعد انتهاء العام العراقي باحتلال أراضيه في 2003م، إذن تضمنت الورقة الأمريكية خططاً طويلة المدى لتغيير بناء منطقتنا لعل بدايتها كان في العراق الشقيق الذي وقعت على أراضيه الأقدام المدنسة في مارس 2003 م، ولم تخرج منه حتى الآن، وتستمر الخطة حتى 2013 كما أريد لها.
كما جاء في مبادرة بوش الخاصة بتحقيق الرخاء الاقتصادي للمنطقة فإن الخطة تتطلب عقد اتفاقيات ثنائية عربية أمريكية تمهيداً لإتمام إنجاز هذه المنطقة التجارية الحرة الكبرى حتى عام 2013، واشترط بوش على الدول العربية التي ترغب في إتمام مثل هذه الاتفاقيات ضرورة أن تتخذ خطوات إصلاحية مثل: محاربة الفساد وما أسماه بالإرهاب، وحماية الحقوق الفكرية، وتطوير أساليب العمل التجارية فيها، تحرير اقتصادياتها، وإصلاح السياسات والمؤسسات الاقتصادية في أنظمتها، وتحرير اقتصادها بما يسمح بتنمية دور القطاع الخاص، وبما يعزز من فرص تدفق رؤوس الأموال الأجنبية - ومنها بالطبع أموال الكيان الصهيوني - إلى البلاد العربية، وبالتالي أصبح على الدول العربية أن تبذل جهوداً مضنية لتحقيق الرغبة الأمريكية، وتوفير المناخ الملائم للاستثمارات الأجنبية، وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلاد العربية، حتى أن مسئولاً عربياً كبيراً صرح لصحيفة عربية قائلاً: "إن ضغوطاً كبيرة تمارس حالياً على الأنظمة العربية لتنفيذ مناطق التجارة الحرة معها، وتحديد أوليات بدء موعد المفاوضات حسب مدى استجابة هذه الدول لطلبات الولايات المتحدة الأمريكية، والخاصة بالملفات الساخنة مثل: العراق، والسودان، ومكافحة ما تسميه الإدارة الأمريكية بالإرهاب، وتعديل أو تغيير البرامج الدينية، والمناهج التعليمية، وتوسيع نطاق الديمقراطية، القضاء على الفساد والرشوة والبيروقراطية في الجهاز الحكومي لكل بلد.
كما تشترط الخطة السماح لرؤوس الأموال الصهيونية بتمويل المشروعات العربية والمساهمة فيها، أو إدماج الكيان الصهيوني في بوتقة المنطقة الكبرى، وهو الهدف الذي تسعى الإدارة الأمريكية من أجله، ويؤكد الخبراء والمحللون أن اتفاق التجارة الحرة الأمريكية الشرق أوسطية تضمن شرطاً لم يعلن، واكتفت الدوائر السياسية الأمريكية بتداوله سراً، يقضى بأن يكون الكيان الصهيوني طرفاً أساسياً في أي تبادل تجارى حر بين دول منطقتنا وأميركا، حيث وضعت أميركا إلى جانب الشروط السابقة المعلنة - صراحة - لإبرام الاتفاق شرطاً مجحفاً يتعلق بمكونات السلع التي يسمح بدخولها إلى السوق الأمريكي، هو ضرورة أن تشمل هذه السلع على مكونات إنتاج صهيونية المنشأ بنسبة 13% على الأقل وإلا تم حظر دخولها.
بنود المبادرة تتضمن الورقة الأمريكية التي ستطرح على دول مجموعة الثماني الصناعية والتي تشمل المبادرة الاقتصادية، مصادر التمويل لإعادة بناء الشرق الأوسط على الطريقة الأمريكية، حيث تشمل بعد إجراء تغييرات هيكلية في المؤسسات والأنظمة الاقتصادية تفعيل دور القطاع الخاص، وتخفيف قبضة الحكومات في البلاد العربية عن الشركات العامة، بل وبيعها جميعها إلى القطاع الخاص فيما يسمى حالياً بـ"الخصخصة"، وتشجيع دخول الاستثمارات الأجنبية مع توفير البيئة المناسبة لها، وتكوين مبادرة تمويل النمو " مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير "، وبنك تنمية الشرق الأوسط الكبير، وذلك لتمويل المشروعات الصغيرة، وتفعيل دور القطاع الخاص ومساعدته في مشروعاته.
إذن الورقة الأمريكية تطرح مفهوماً بديلاً وكياناً جديداً للمنطقة تسميها منطقة الشرق الأوسط الكبير والذي يضم بالإضافة إلى الدول العربية، الكيان الصهيوني، إيران، تركيا، أفغانستان، وباكستان، ولعل ما شاهدناه في أفغانستان ثم العراق لدليل قاطع على بدء تنفيذ المخطط الكبير للمنطقة التي بقيت المنطقة الوحيدة التي لم تتدخل فيها أميركا بشكل فعلى لإقامة كيان جديد يتعامل مع النظام العالمي الجديد الذي تجلس فيه أميركا على رأسه متفردة بمقعد واحد تشير يميناً ويساراً فيتم تلبية ما تريد، لكن أين وضع الكيان الصهيوني من المخطط؟!
الكيان الصهيوني طرف أساسي، تتضمن ورقة العمل أو المبادرة الأمريكية لإقامة منطقة حرة (شرق أوسطية - أمريكية) إقامة تعاون وثيق بين الكيان الصهيوني والدول الشرق أوسطية، فمع تحرير الاقتصادات العربية والإسلامية في المنطقة يصبح حرية تدفق الأموال اليهودية إلى البلاد العربية والإسلامية أمراً يسيراً، ولذلك هللت الأوساط السياسية والأحزاب السياسية لدى الكيان الصهيوني طرباً وفرحاً بهذه المبادرة، وعند نجاح المخطط الأمريكي يصبح من حق الأموال الصهيونية التدفق إلى البلاد العربية والمساهمة في مشروعات عربية، بل وإقامة مشروعات صهيونية خالصة على الأراضي العربية، كما أن هذه المبادرة أو هذا المخطط - في حال نجاحه - يقضى على المقاطعة العربية للمنتجات الصهيونية تماماً، لأن كما سبق وذكرنا - من شروط إقامة مناطق تجارة حرة مع الكيان هو أن تحتوى على مكونات صهيونية بنسبة 13%، كما أن المنطقة الحرة تعنى حرية تبادل السلع بوضع متكافئ يحق فيه للكيان الصهيوني تصدير منتجاته إلى البلاد العربية والعكس، وبالتالي يتم صهر الكيان الصهيوني في بوتقة العالم الإسلامي والعربي، ومع توفير البنية اللازمة والظروف والمناخ الملائم، والقضاء على الفساد والإرهاب، يصبح الكيان الصهيوني جزءاً لا ينفصل عن العالم الإسلامي والعربي، لكن كيف يتم ذلك؟ وكيف تنجح المخططات الأمريكية الصهيونية مع وجود مثل هذا "الإرهاب" الفلسطيني - المقاومة الفلسطينية - كما تقول أميركا؟
وفي هذا الإطار تقول كونداليزا رايس: إن"منطقة الشرق الأوسط تعانى تخلفاً مرده إلى ما يسميه أبرز المثقفين العرب بـ"الافتقار إلى الحرية السياسية والاقتصادية"، حيث يتحول الإحساس باليأس لدى فئات كثيرة إلى أرض خصبة للأيديولوجيات التي تقنع الناس بترك التعليم، والعمل، والعائلة كى يفجروا أنفسهم آخذين منهم أكبر عدد ممكن من الأرواح"، ومن هنا لابد لإنجاح مثل هذا المخطط (الأمريكي الصهيوني) القضاء على المقاومة الفلسطينية نهائياً، وهنا تبرز الحاجة - دائماً - إلى قيادة فلسطينية ترضى بالمخططات الأمريكية، وتقنع ببيع وطنها غير عابئة بذلك، ومن هنا نجد الضغط المتزايد في الأوقات الراهنة لطرد أو إقصاء زعماء فلسطينيين، والضغط لقبول قيادات أخرى تقبل بالشروط الأمريكية، وتذعن لرغبات الكيان الصهيوني.
ولكن.. أين العرب؟
ترحيب عربي لم يتغير، الموقف العربي حيال المخططات أو فيما يسمى بالمبادرات الأمريكية - فقد قوبلت المبادرة لإقامة منطقة تجارة حرة أمريكية شرق أوسطية بالترحاب والتهليل، ورأت الأوساط الاقتصادية والسياسية في البلدان العربية هذه المنطقة فرصة جادة لجذب الاستثمارات الأجنبية، ورفع معدل التنافس في أسواق المنطقة، كما أنها فرصة لزيادة الصادرات العربية إلى السوق الأمريكي الذي يعد من أكبر الأسواق العالمية كقوة شرائية، ولم تنتبه الأنظمة العربية إلى حقيقة أهداف المخطط الأمريكي الصهيوني.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد