على الرغم من تشدّق القارة الأوروبية الدائم - ولاسيما ألمانيا - بتمسكها بمراعاة حقوق الإنسانº إلا أن كل هذه الادعاءات تبقى مجرد كلام ليس عليه دليل أمام رد الفعل الأوروبي تجاه الانتهاكات الأمريكية لأراضي القارة العجوز!!، ويبقى التصرف الأوروبي ضعيفاً وبطيئاً أمام حوادث اختطاف المتهمين، ونقلهم إلى معتقلات يتم فيها تعرضهم لأبشع أنواع التعذيب دون توجيه أية اتهامات ضدهم.
وحول الموقف الأوروبي تجاه هذه الانتهاكات كتبت صحيفة ""دي تسايت"" الألمانية ما يلي:
قامت القوت الأمريكية بالتخطيط لخطف متهمين بالإرهاب على أراضي ألمانية فهل حان الوقت للتحقيق قضائياً ضد جنرالات أمريكا؟
في يناير 2002 أصبح "مانفريد نوفاك" المقرر الخاص للأمم المتحدة حول التعذيب، والذي كان يشغل آنذاك منصب قاضياً بالمحكمة الدولية العليا حول البوسنة شاهداً على عملية اختطاف مريبة، وتعود أحداث الواقعة إلى اتهام السلطات في "سراييفو" ضد ستة أشخص جزائريين بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، ونظراً لعدم كفاية الأدلة ضدهم قضت المحكمة في "سراييفو" بإطلاق سراحهم، وما أن قام الستة بمغادرة المحكمة والتوجه خارجها إلا وقام أشخاص مجهولون بدفعهم داخل سيارةº ليتضح فيما بعد أنهم محتجزون في "جوانتانامو" حتى الآن دون أية اتهامات في حقهم.
لقد كانت عملية الاختطاف مدبرة ومنظمة من قبل السلطات الأمريكية، والآن يجب على القضاء الألماني تقديم الجناة للمحاكمة، لأن التحضير لهذه الواقعة والتجهيز لها تم في مدينة "شتوتجارت" الألمانية، وهو ما أدلى به "نوفاك" نفسه لصحيفة ""دي تسايت" الألمانية، وقد حصل المقرر الخاص للأمم المتحدة حول التعذيب "نوفاك" على هذه المعلومات من ملفات موثوق بها للجيش الأمريكي، وقال "نوفاك": "لقد ظهر لنا بوضوح من خلال هذه الملفات أن عملية الاختطاف تمت في قاعدة "القيادة الأوروبية" التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" بمدينة "شتوتجارت"، والتي تمثل المركز الرئيس للقوات الأمريكية في جميع أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا، وتعتبرها الولايات المتحدة نقطة مركزية هامة في "الحرب ضد الإرهاب".
والسؤال الذي يطرح نفسه حالياً هو: هل بإمكان وزارة العدل الألمانية ملاحقة الحلفاء الأمريكان؟ وقد أجاب "نوفاك" على هذا السؤال بالإيجاب، حيث تنص اتفاقية نشر القوات الأمريكية التي تنظم تواجد الجيش الأمريكي على الأراضي الألمانية على أن الجنود الأمريكان يخضعون لقانون ألماني، وأنه المختص بمحاسبتهم، والتحقيق معهم في حال ارتكاب أية مخالفات ضد قانون البلاد، وأنه في حال القيام بانتهاك لحقوق الإنسان يجب على هيئات البلد المضيف ومؤسساته القيام بدورها.
وهذا بالتحديد ما يحدث حالياً، حيث أعلن المدعي العام في مدينة "كارلسروهى" الألمانية أنه قبل بالتحقيق في حوادث الاختطاف التي تمت على أراضي ألمانيا، وصرح المتحدث باسم المدعي العام "مونيكا هارمس" أن التحقيقات لن تخضع لأية ضغوط يقوم بها الساسة في هذا المجال، وأن التحقيقات سوف تتم دون مراعاة لأية رغبات أو أهداف سياسية.
ولكن هل من فائدة تُجنى من وراء هذا الإجراء؟ فالولايات المتحدة الأمريكية لم تظهر أي رد فعل إيجابي في قضيتي "خالد المصري" و"مراد كورناز"(1)، إذ أن الإدارة الأمريكية لم تكلف نفسها عناء الرد حول طلب برلين بالمساعدة الأمريكية في التحقيقات، إلا أنه وقبل أي شيء فإن السلطات الإيطالية أظهرت كيف يمكن للمرء أن يستغنى بنفسه إذا ما أصرت السلطات الأمريكية على عدم التعاون، وذلك بعد إعلان المدعي العام الإيطالي يوم الاثنين توجيه الاتهام إلى رئيس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية في إيطاليا، والذي كان مسئولاً عن مكتب الـ"CIA" في ميلانو، كما قامت بإصدار أوامر اعتقال في حق 12 عميلاً للمخابرات الأمريكية، وتتهمهم السلطات الإيطالية بالمشاركة في اختطاف الإمام المصري "أبو عمر"، والذي اختُطف من نهر الشارع في إيطاليا وفي وضح النهار، ونُقِل إلى المعتقل في مصر عبر مدينة "فرانكفورت" الألمانية، وتتهم السلطات الألمانية نفس هؤلاء العملاء باختطاف المواطن الألماني ذي الأصول اللبنانية "خالد المصري".
ولا يقتصر الأمر على الشق القضائيº بل إن البرلمان الأوروبي يساهم هو الآخر في كشف ملابسات الاختطاف التي تمت على أراضيه من خلال نشره لقائمة بأسماء الدول التي تعاونت مع الولايات المتحدة في عمليات الاختطاف هذه، قد كانت ألمانيا إحدى هذه الدول.
وفق تصريحات مصادر دبلوماسية مطلعة لصحيفة "دي تسايت" فإن الاتحاد الأوروبي يسعى منذ وقت طويل خلف الأبواب المغلقة للتوصل إلى حل وسط مع الولايات المتحدة الأمريكية لوقف نزيف انتهاكات حقوق الإنسان المتواصل من قبل "واشنطن" داخل أوروبا، إلا أن الاتحاد الأوروبي يرغب في البقاء داخل الصورة، وألا يخسر علاقاته مع الإدارة الأمريكية.
وتًُظهر المحاضر السرية للقاءات بين القادة الأوروبيين والمسئولين الأمريكيين إلى أي اتجاه تسير هذه المحادثات، ومن ضمن هذه اللقاءات ما تم بين "جون بلينجر" مستشار وزيرة الخارجية الأمريكية حين عقد اجتماعاً مع مسئولين أوروبيين بمناسبة قمة الاتحاد الأوروبي مع الرئيس الأمريكي "جورج بوش"، وقد تطرق هذا الاجتماع إلى قضية انتهاك الولايات المتحدة لحقوق الإنسانº إلا أن لهجة "بلينجر" كانت ساخرة ومستهزئة، وفيها نوع من التهديد بأن إصرار المجلس الأوروبي على التحقيق في رحلات (السي أي إيه) وعمليات الاختطاف من شأنها أن تضر بالعلاقات بين واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، معترفاً بأن بلاده لا تمنع ولا تحظر ترحيل معتقلين إلى دول يتعرضون فيها للتعذيب داخل المعتقلات.
وتم الاتفاق كما ورد في محضر اللقاء السري - والذي حصلت الصحيفة عليه - على ضرورة أن يتفق الأوروبيون والأمريكيون مستقبلاً على طريق مشترك وموحد فيما بينهما للتعامل مع مثل هذه القضايا.
بعبارة أخرى: فإن أوروبا على استعداد للتراجع عن مستواها المعهود في حقوق الإنسان في سبيل ترويض الولايات المتحدة الأمريكية إلى حدٍ, ما، وقد أسدى مسئولو الاتحاد الأوروبي بنصيحتهم إلى زملائهم الأمريكان في التعامل مع أجهزة الإعلام المتعددة، والتي كان مفادها كالتالي "الطريق الأفضل للتنصل من أية أخطاء يتلخص في عدم التعليق على حالات فردية، بل التركيز على القيم الكلية".
وقد وصل عدد الرحلات الجويّة التي قامت بها الـ"سي أي إيه"، والتي حطّت في المطارات الأوروبية بين 11 سبتمبر 2001 ونهاية العام 2005 إلى نحو 1000 رحلة، كما تمّ إثبات أنّ 14 دولة منها: ألمانيا والسويد، وإيطاليا وبلجيكا، وأسبانيا استقبلت على أراضيها مرور سجناء غير شرعيّين، كما أوّت دولتان أخريتان تنتميان للاتحاد الأوروبي ألا وهما (بولونيا ورومانيا ) مراكز اعتقال فعليّة ومؤقّتة وغير شرعيّة خلال فترة لم تُحدَّد بعد لإرهابيّين مُفترَضين، ويشكّل هذا الأمر خرقاً للمادّة السادسة من معاهدة الاتحاد وللاتفاقية الأوروبية حول حقوق الإنسان والحرّيات الأساسية، وتمّ إثبات حصول 30 إلى 50 عمليّة اعتقال وعمليات النقل التي تبعتها.
(1) "خالد المصري" مواطن ألماني من أصول لبنانية قامت قوات الأمن الأمريكية بتوقيفه والتحقيق معه في مقدونيا على مدى 23 يوماً، ليشحنوه بعد ذلك في طائرة خاصة إلى أحد سجون "السي آي إي" السرية في أفغانستان بعد أن قاموا بتخديره وسجنه في سجن "سالت بيت"، وأكد تعرضه لعمليات تعذيب من قِبل وكالة المخابرات المركزية لمدة تزيد عن خمسة أشهر بعد اعتقاله، وأنه تعرّض للضرب والركل، وتم تصويره عارياً، وحبسه في زنزانة أسمنتية، وكان يقدّم له مياه شراب ملوث، وعظام دجاج مغلية كطعام، كما أن محققاً أمريكياً قال له أثناء التحقيق معه في أفغانستان: 'أنت في بلد لا قانون فيه، نستطيع أن نتناسى أمرك هنا لمدة 20 عاماً، وأن ندفنك ولن يعرف أحد شيئاً عن الأمر'.
"مراد كورناز" هو المواطن التركي المولود بألمانيا 'مراد كورناز'، واعتقلته باكستان في نوفمبر 2001، وسلّمته إلى قوات الاحتلال الأمريكية في أفغانستان، والتي أرسلته بدورها إلى معتقل جوانتانامو بـ"كوبا"، إلا أنه تم إطلاق سراحه في شهر أغسطس الماضي، وقام بعض المحققين الألمان بتعذيبه وإهانته حيث قاموا بتقييد يديه خلف ظهره، ثم قام أحدهما بجذبه من شعره قائلاً: هل تعلم من نحن؟ نحن القوات الألمانية، ثم بعد ذلك قاموا بضرب رأسه في الأرض، مما أعجب الأمريكانº وكان الأمر بالنسبة لهم مضحكاً "حسب كلام كورناز نفسه"، كما تعرض للتعذيب الكهربي على أيدي الجنود الأمريكان، بالإضافة إلى تعرضه لإهانات واستفزازات جنسية من قبل بعض المجندات الأمريكيات في "جوانتانامو" اللاتي قمن بالتحقيق معه، وكانت واشنطن كانت قد عرضت على برلين الإفراج عن "كورناز" بعد فترة قصيرة من اعتقاله إلا أن الحكومة الألمانية لم تبد اهتماماً، ورفضت استقباله أو الموافقة على إطلاق سراحه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد