الأسهم حديث الساعة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

اسمحوا لي أن أنتقل بكم أو أنتقل معكم إلى مجلس من مجالس رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -، يروي لنا خبره وقصته الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -، كما جاء في صحيح البخاري، عن أبي سعيد أنه قال: جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله، قال: فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)، فقام رجل فقال: يا رسول الله وهل يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ضرب مثلاً ثم قال: (إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل - قال الراوي أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة).

 

مجلسٌ في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سيد الخلق يتحلّق حوله وأمامه أصحابه، قلبه الرحيم شفقته على أمته أنطقته بقوله: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها).

الصحابة يتعلمون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيسأل أحدهم متعجباً مستفسراً: كيف تكون الدنيا وزهرتها والخير والمال شيء يخشى منه! قال: " يا رسول الله هل يأتي الخير بالشر؟ "، فسكت النبي - حتى يلفت أنظار الناس - ثم ضرب مثلاً طويلاً في شأن الدابة والإبل عندما تأكل ثم تجتر ثم تستقبل الشمس إلى غير ذلك، ثم بين إن هذا المال خضرة حلوة، نفس تحبه تتعلق به، تشتاق إليه، تحرص عليه، تفكر فيه، تجتهد في جمعه، تسهر الليل في تحصيله، تشقى النهار لأجله، تكاد في بعض الأحيان أن تنقطع له، ولا يكون لها هم سواه، كما وصف سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في صورة أخرى عندما قال: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)

لِمَ سمّاه عبدا للدينار أو عبدا للدرهم أو عبد للخميصة أو عبدا للخميلة كما ورد في الحديث، لأنه إذا كان القلب معلقا به والفكر منشغلا فيه والجهد مبذولا له والوقت مستغرقا لأجله، فأي شيء بقي؟

ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حقيقة عظيمة، قال: (ومن يأخذه بغير حقه يكون كمن يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة).

من كان همه الجمع والحرص والحب والاستكثار من غير نظر إلى حلال أو حرام، من غير نظر إلى حق الله في المال، من غير نظر إلى أمور كثيرة، سنجثو جميعاً على ركبنا لنتعلمها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كمن يأكل ولا يشبع، صورة غير موجودة في الواقع المحسوس، من أكل امتلأت بطنه وشبع، لكن البطن التي لا تمتلئ هي البطن التي تريد أن تأخذ أو تأكل كل شيء من حل وحرمة، {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}.

 

تأملوا هذا الحديث، هذه القصة البسيطة، وانتقلوا معي إلى حديث صحيح آخر، يصف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة النفس البشرية وصفاً دقيقاً، وهو وصف يتضمن توجيهاً وتنبيهاً وتعليماً وتربية وتذكيراً، روى أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حبه المال، وطول العمر).

وفي رواية مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: حب الحرص على المال والحرص على العمر).

السن يتقدم الجسم يضعف، لكن الشباب مستمر ومتجدد في حب المال وحب الحياة، وفي رواية من حديث أبي هريرة عند مسلم في صحيحه قال: (يشب الشيخ على حب اثنتين: طول الحياة وحب المال).

فهذه أيضاً صورة وصفية دقيقة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

 

وأنتقل إلى صورة أخرى لأني أريد أن أريكم صورا أحسب أنها اليوم في واقعنا كأنما هي ضرب من الخيال، لو أن أحداً جمع الناس كجمع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرهم بذلك الحديث الذي أوردناه لعجبوا منه عن أي شيء تتحدث؟! هل تريد أن تخيفنا من الدنيا وزهرتها ونعيمها؟ لا داعي لذلك التخويف، نحن نأخذ المال نحن ننفقه نحن نعرف حق الله، فهل كان أصحاب محمد لا يعرفون ذلك؟ لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم ويعلم الأمةº لأن المزالق كثيرة وما رأينا زيغاً وانحرافاً في كثير من الجوانب إلا ومرده ذلك المرتع الوخيم، الذي يبدأ يسيرا ثم يعظم في التعلق بالمال وحبه.

 

أنتقل بكم إلى قصة أخرى، أعلم أنكم لو سمعتموها كقصة وليست حديثا لضحكتم وتندرتم من قائلها وقلتم له قصص عجيبة وغريبة، لكن القصة مروية في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قص النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عن رجل من بني إسرائيل جاء إلى أخ له فستقرضه دينار فأعطاه ألف دينار، فقال له: ائتني بالشهود، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، قال: فمضى صاحبه فركب البحر، فلما آن الأوان لسداد المال، لم يجد مركبا يركب فيه، وحار في أمره، ولم يرد أن يتخلف عن أمر أشهد الله فيه وجعل الله كفيله فيه، فأخذ خشبة فنخر فيها، فوضع فيها المال ومعه ورقة، ثم قذف بها في البحر، فجاء صاحبه من الجهة الأخرى فوجد الخشبة فأخذها حطبا لأهله، فلما مضى إلى بيته نشرها فوجد فيها المال فأخذها، ثم من بعد ذلك جاء المقترض وجاء بماله مرة أخرى، وقال: ما أخرني عنك إلا أني لم أجد مركبا، فقال له: هل بعثت شيئا قال: أقول إني: لم أجد مركباً، إلا يومي هذا، قال: فهل وضعت مالا في الخشبة، قال: نعم، قال: فقد أدى الله عنك.

قصة عجيبة خرافية عند من لا يؤمنون بخبر الأنبياء، قصة ربما للتلهي أو لتلهية الناس عن أمور أخرى، لما أوردها هنا لنقول إن من يتعامل في دنياه وفي تجارته وماله مع الله وبمراقبة الله، تكون أموره مختلفة، وأحواله على غير الأمور التي يعرفها الناس وينسجون حولها أو يتعاطونها، ولو قلنا لأحد اليوم افعل مثل هذا، لقال: وهل تراني مجنونا حتى أضع مالا في خشبة أو أقذف به في البحر، أو أي صورة من الصور الأخرى التي قد تكون مماثلة، لماذا؟ لأنه قد ضعف اليقين في القلوب والإيمان في النفوس، وصار الاعتماد على المادة والأمور المحسوسة أعظم من الاعتماد أو الظن واليقين في الأمور الغيبية التي يجري بها قدر الله - عز وجل - الذي هو يقدر الأقدار ويصرف الأكوان - سبحانه وتعالى -.

 

ثم أمضي بكم أيضا إلى صورة ثالثة ذكرها أيضا البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري، قال: كنا في سفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل من الأعراب راكبا يلتفت يمينا ويسارا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له يعني من كان عنده دابة يركبها زائدة فليعطها غيره ممن ليس عنده دابة- ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا شيء له) قال أبو سعيد: فذكر من المال ما شاء الله أن يذكر -يعني عدد من كان له فضل مال من كان له فضل لباس من كان له فضل طعام- قال: حتى رأينا أن لا حق لأحد منا في فضل)

يعني كأن ما زاد عن حاجتك أخرجه لغيرك ممن يحتاجه.

 

ومرة أخرى نركب الصور ونجمعها، كيف نتخلص أو نحذر مما خوفنا منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنه التوكل على الله الذي جعل الرجل يقذف بماله في ماء البحر، وإنه النظر إلى الإنفاق في سبيل الله لئلا تتشبث به النفس ويتعلق به القلب، ويصبح هو الهم الأعظم الأكبر، ويتحقق الوصف الرباني الذي هو في طبيعة الإنسان، إن لم يهذبه الإيمان، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وإنه لحب الخير لشديد}

قال أهل التفسير: الخير هنا هو المال، وإنه لحب الخير أي المال، {لشديد} حبه شديد للمال، قال ابن كثير: "في الآية معنيان إنه أي الإنسان حبه للمال شديد أي عظيم، أو المقصود بشديد، أنه بخيل، أي أن حبه للمال جعله شديدا حريصا بخيلا، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصف العجيب الذي أخبر فيه عن طبيعة النفس التي فيها جود وبذل وسخاء وعطاء وطبيعة النفس التي فيها قبض وبخل وشح، عندما أخبر أنه مثل بالرجل الذي يلبس حلة من حديد، قال: فإذا أنفق أسبغت عليه ووفرت، وعفت أثره - أي محت ذنوبه من بعده - وإلا - أي البخيل- ضاقت عليه حتى ضاقت على ترقوته كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -"

وقد أخبرنا: (اللهم أعط منفقا خلفا، اللهم أعط ممسكا تلفا).

تلك صورة قرآنية وضحها الحق - سبحانه وتعالى -، ولو أردنا أن نفقه كيف نعالج الأمر فلنتمم الآية التي بعدها {وإنه لحب الخير لشديد * أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور}.

إلى أين سيمضي بك حب المال؟ هل ستبقى مخلدا في الدنيا؟ ألا تعلم ألا توقن ألا تتذكر بأن الحال سيؤول إلى موت وقبر وحفرة مظلمة ليس فيها طول ولا عرض إلا بقدر ذلك الجثمان {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور}.

يوم يقف المرء بين يدي الله - عز وجل - فيسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، كل ريال لو علمت أنك تسأل عنه: من أين جاء وكيف خرج..لطال فكرك في تحصيله، ولأسرعت كثيراً في إنفاقه صور كثيرة مازالت يصورها لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -..

 

ولعل بعضكم الآن يسأل لم نورد هذه الصور المتكاثرة، وسأزيد من هذه الصور والأحاديث والآيات وأجعل علتها من بعد.

في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ من المال أمن حلال أم من حرام)

انظر يميناً انظر يساراً، تذكر بعض من حولك.. تذكر بعض ما رأيت، في ثوان معدودة أجزم أن كلا منكم ستدور في ذهنه عشرات من الأحوال والأعمال والصور التي رأى فيها المال ينهب من حرام وصاحبه مطمئن القلب باسم الثغر كأنه لا شيء من الخطر عليه مطلقاً، كأنه لم يسمع مثل هذا الحديث الذي يذكره النبي على سبيل الإخبار، ولكنه يتضمن الوعيد لأنه قد صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به).

والله - جل وعلا - قد أخبرنا فقال: {.. فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.

صور ليس فيه تحريم لحلال قطعاً، لكن فيها تنبيه وتحذير من أخذ المال من حرمة، أو عدم التورع من شبهة، أو التساهل في أمر كما قال الحسن - رحمه الله -، قال: " أدركت أقواما كانوا يدعون ما لا بأس فيه مخافة أن يكون فيه بأس، ولقد أصبحت في أقوام يأخذون ما فيه بأس رجاء أن لا يكون فيه بأس ".

مال لا شك في حله يتركونه خوفا من أن يكون فيه شبهة حرام، ومال يغلب الظن على حرمته يؤخذ اليوم ليقال فيه قول أو لعل فيه مخرجا، أو نأخذه ثم نفكر من بعد ما هو حكمه.

وأنتقل بكم أيضا إلى صورة ثالثة أو رابعة، لحكيم بن حزام - رضي الله عنه - جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فأعطاه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -، قال ثم جئت ثانية أي في وقت آخر- فسألته فأعطاني، قال: ثم جئت ثالثة فسألته فأعطاني، ثم قال: (يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه).

(من أخذه بطيب نفس) نفسه سمحة، جاء المال.. جاء، ذهب.. ذهب، تأخر.. تأخر، ليست معنية به وليست تجعله هو همها الأعظم، وأما من كانت النفس عنده مستشرفة، يبيت ليله ينتظر الصباح الذي يأتيه بالمال، يخطط أحيانا أو يتمسكن أو ربما يكذب أو ربما يحتال، يترقب المال ويستشرف له ويستكثر منه لم يبارك له فيه، وهل تظنون المال بكثرته أم ببركته، كم من أموال كثيرة عند أصحابها محقت بركتها، فكان كثيرها أقل من القليل، وكم من قليل مبارك نفع الله به حتى فاض مع قلته، هذا هو اليقين الإيماني، هذا هو الذي جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو خير الخلق الذي نزل عليه ملك الجبال يقول: (لو شئت أن أقلب لك الصفا والمروة ذهبا لفعلت، فيقول: لا ولكن أجوع يوما وأشبع يوما).

 

هذا الذي جعل سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - يموت ودرعه مرهونة عند يهودي، هذا الذي جعله - عليه الصلاة والسلام - يصلي ثم يسرع في صلاته ثم ينفتل فيخرج إلى بيته ثم يرجع من بعد فيتعجب أصحابه فيقول: (ذكرت شيئا من تبر فخشيت أن يحبسني فأنفقته في سبيل الله).

كان المال يأتي يمر فيخرج ليس هناك تعلق قلبي ولا انشغال فكري ولا هم ولا غم ولا ترقب ولا تحسب ولا حزن ولا بكاء ولا مرضº لأن القلوب معلقة بما هو أسمى وأعظم، لأن اليقين والتوكل على من هو أكبر وأجل وأعز وأعظم - سبحانه وتعالى -، من عنده خزائن السماوات والأرض من إذا قال لشيء كن فيكون، ومع ذلك نتأمل في هذا الحديث، أعطاه ثم أعطاه ثم أعطاه، ثم نبه هذا التنبيه العظيم الذي قال له به، يا حكيم لا تجعل المال شغلا يشغلك في كل وقتلك، فماذا صنع حكيم هذه الكلمات ماذا أثرت فيه، هل بقي على حاله، كلا، قال:

"فما سألت بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدا من بعده شيئا"، حتى كان عمر في زمانه يعطيه من حقه فيرده ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

روى البخاري في صحيحه أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان صائماً في يوم من الأيام، ثم عند طعام الإفطار جاءوا له بصنفين من الطعام، وعبد الرحمن من أثرياء المسلمين، لكن ثراؤهم كان يختلف، يختلف كثيرا عن أحوال كثير من أثريائنا، لما جيء له في الإفطار بنوعين من الطعام بكى - رضي الله عنه -، فقالوا: ما يبكيك يا عبد الرحمن، قال: "ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد لم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدت قدماه، وإن غطينا قدماه بدا رأسه، وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا".

 

كان يخشى أن يكون هذا نعيم الدنيا يحرمه من نعيم الآخرة، أولا يكون له من النعيم قدر عظيم فقد عجل له نعيم في الدنيا كثير، كل نعيم كان في الدنيا، كانوا ينظرون إليه في الآخرة، هل سيحرمهم؟ هل سيمنعهم؟ هل سيكون فيه حرمة تستوجب عقوبتهم؟

وكلنا يعلم ما روى الترمذي أيضا وأهل التفسير في قوله - عز وجل -: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم}

يوم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيته بسبب شدة الجوع، فلقي أبا بكر، قال: يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة، قال: الجوع يا رسول الله، فقال: ما أخرجني إلا الذي أخرجك، ثم مضيا فلقيا عمر الفاروق، ما أخرجك يا عمر، قال: الجوع، فمضى الثلاثة حتى أتوا رجلا من الأنصار، ففرح بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام إلا شاة فذبحها وطبخها، ثم استعذب الماء وقدمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه فأكلوا وشربوا، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (والله لتسألن عن نعيم هذا اليوم).

كم من نعيم كهذا في كل يوم من أيامنا، ولذا أعيد بكم إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ينبهنا في واقع حالنا اليوم، وهو يتحدث إلينا كأنه بيننا - صلى الله عليه وسلم -، ويقول كما ثبت في الحديث الصحيح أيضا - عليه الصلاة والسلام - من رواية أبي هريرة- (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه).

وفي رواية مسلم قال: (ممن فضل عليه).

 

أي فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه، كم يقول اليوم الناس الحال سيئة.. انظر فلان كم راتبه، انظر فلان ماذا عنده، هلا نظرت إلى من هو دونك، هلا نظرت إلى الصور التي تراها على الشاشات لأهل إفريقيا الذين تصيبهم المجاعة فيموتون ويتساقطون كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف.

كنت بالأمس مع طبيب مختص في جراحة القلب للأطفال، فقال لي بالحرف الواحد: ما كنت أشعر بمعنى قوله - عز وجل - {أو مسكيناً ذا متربة} حتى ذهبت إلى إفريقيا فرأيت الناس على الأرض يبحثون في التراب طعاما أو يأكلون التراب، أفلا نحمد الله على نعمته، أفلسنا نتنبه إلى هذه المعاني كلها، والله - جل وعلا - يقول: {وتأكلون التراث أكلا لمّاً * وتحبون المال حباً جمّاً}

والتراث هو الميراث، أو ما خلف من المال.

قال ابن كثير: " أي ما حصل منه من حل أو من حرام "

{وتحبون المال حبّاً جمّاً}º أي شديدا حلاله وحرامه.

وكل هذا الذي نقوله، هو منهج الإسلام، لكنه قطعا ليس فيه تحريم لما أحل الله، ليس فيه تحريم للطيبات ولا للتجارات! لكنه تهذيب للنفس من التعلق بهذه الدنيا على النحو الذي نراه.. سعار عجيب، وتعلق غريب، وانشغال تام، وانهيارات عصبية وجلطات دماغية، وسكتات قلبية، لأجل الأسهم إذا صعدت أو نزلت، ولا ننظر إلى أسهم الإيمان صاعدة أو نازلة، ربما تصل إلى أسفل سافلين والناس يضحكون ملء أشداقهم، وينامون ملء عيونهم.. لكن إن سقطت الأسهم نسبة محدودة في المائة ما ناموا ليلهم، ولا وقفوا نهارهم عن الحركة والدأب، ولا فترت ألسنتهم من الشكوى ولا قلوبهم من الغم والهم، لا حرمة لشيء مما أحل الله.

 

قال عمرو بن العاص كما روى الإمام أحمد في مسنده: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وهو يتوضأ فقال: اذهب والبس ثيابك وسلاحك ثم ائتني، فأتيته فنظر إلي فقال: إني باعثك على جيش ويسلمك الله وتغنم وأرغب لك في مال صالح، فقال عمرو بن العاص: يا رسول الله ما أسلمت على مال وإنما أسلمت لأكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (نعم المال الصالح للرجل الصالح).

هكذا هو المنهج المتزن المعتدل.. ذاك لم يكن متعلقا بالمال، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول خذ من المال ما هو صالح وتكون صالحا تنفقه في مكانه ومحله.

 

وروى النسائي في سننه كذلك عن عمرو بن تغلب أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من أشراط الساعة أن يفشو المال ويكثر، وتفشو التجارة، ويظهر الجهل ويبيع الرجل البيع فيقول لا حتى أستأمر تاجر بني فلان ويبحث عن الرجل الكاتب في الحي العظيم فلا يجد).

قال السندي في شرحه في هذا الحديث في قوله: (يفشو المال ويكثر وتفشو التجارة ويظهر الجهل) قال: "أي بسبب اهتمام الناس بأمر الدنيا"

من يطلب العلم اليوم، وإذا عكف عليه عاكف، قالوا مغفل ضيع دنياه، وإذا تفرغ له أحد أو أعطاه شيئا من وقته، أو قل بسببه شيئا من دخله قالوا إنه أحمق يقرأ كتبا ويأخذ علما ما عسى أن ينفعه في المال، ولو حصل على أعلى الشهادات في الشريعة فلن توظفه ولن يدخل سوق العمل، وكأن سوق العمل دخول إلى الجنة، وكأنه ضمان من عذاب الله - عز وجل -.

قال السندي - رحمه الله - في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ويبيع الرجل البيع فيقول لا حتى أستأمر تاجر بني فلان) قال: " إشارة لبيان كثرة اهتمام الناس بالدنيا وحرصهم على إصلاحها"

وكل يوم نستمع إلى العشرات من خبراء الأسهم والهواتف تشتغل متى نشتري ومتى نبيع، لا تحريم لما أحل الله، لكن المنهج الإيماني يقتضي غير هذا وهذا هو الذي بينته من حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

نسأل الله - عز وجل - أن يعلّق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يعلقها بعبادته وكثرة ذكره وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا منتهى أملنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

 

الخطبة الثانية:

أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون:

الأسهم حديث الساعة يتكلم فيها الرجال والنساء، ويتحدث عنها الصغير والكبير، وتتصدر صفحات الصحف والإذاعات والفضائيات والقنوات، عمت قضية الاهتمام بها والتعلق بها كل أحد، والأمر الذي تحدثت عنه قد يراه بعض الناس موعظة في غير محلها، أو تذكيرا بعصر قد سلف ومضى، وهل سنكون كذلك العصر، ولكنني أقول معتقدا وجازما باعتقادي وبما أحسبه صحيحاً، هل يا ترى سنعالج في المنبر أو حتى في أي دائرة خلل السوق ونقومه ونرشد الناس إلى طريقة الصفق في الأسواق، هم بها أخبر مني ومن غيري، لكننا نقول من خلال هذا العرض الموجز انتبهوا معاشر المسلمين ليست الدنيا كل شيء ليس المال كل شيء وأنا متيقن كذلك أن هذه الحركة العظيمة الهائلة بالأموال الكثيرة المتكاثرة فيها كثير من ارتكاب المحرمات والتجاوز في كثير من المعاملات والسؤال الذي يسأل بين خلط ونقاء وغير ذلك، كثير من الناس لا يلقي له بالا ويتجاوز فيه ويأخذ بالأدنى في كل شيء، بل قد غير كل تفكيره في حياته ومع أسرته وربما حتى في شؤونه الخاصة والعامة، حتى جعلها مربوطة بهذا دون أن يكون له التفات حقيقي إلى الأمر الذي خلق له، والغاية التي يعيش لأجلها، والدين الذي ينبغي أن يعتني بها وبأسهمه أن تكون صاعدة لا هابطة، والله - عز وجل - قد بين لنا ذلك وحذّر منه وبين الحقائق كلها، وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الإمام أحمد من رواية كعب بن مالك عن أبيه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).

 

تلك صور كثيرة وهي ومضات قليلة، أقول في ختامها:

أولاً: اقدروا الدنيا قدرها واجعلوا لها حظها دون أن تكون هي الأولى والآخرة، دون أن تكون هي التي تسد الأفق فلا ترون غيرها ولا تعرفون سواها ولا تنظرون إلى غيرها، وتلك مصيبة كبرى إذا دخلت إلى القلوب والنفوس والعقول والأفكار والأحاديث والصحف والمجلات نسينا كل شيء.. نسينا كل جرح من جراح المسلمين.. نسينا كل مصيبة من مصائب الأمة.. نسينا كل اعتداء على الدين.. نسينا كل تجاوز على الحرمات.. نسينا كل تقصير في الواجبات، وانشغلنا بالأسهم كأن حياتنا التي خلقنا لأجلها هي هذه الأسهم.

 

والأمر الثاني: أين التوكل على الله، أين صدق التوكل على الله الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنكم توكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)

الطيور تخرج من أوكارها مع الفجر بطونها خاوية وتعود في آخر النهار بطونها ممتلئة، لم تأخذ دورات في الأسهم، ولا تعرف الهبوط والصعود ولا غير ذلك.

 

وأخيراً: أين الرضا بقدر الله؟ كيف لم تفكر عندما كانت الأرباح تتعاظم والأموال تكثر لم تفكر ولم تسأل! وعندما جاء الهبوط جاء التذمر وجاء الاعتراض وجاء غير ذلك..

ثم أيضا ننتبه إلى مسألة أخيرة: هل نحن منتبهون إلى الحل والحرمة وإلى الإنفاق تحدثاً بنعمة الله كلما زاد الخير الذي عندنا أم ما نزال نستكثر ونستكثر حتى يصدق فينا - والعياذ بالله - حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن يأكل ولا يشبع، ومضة من حياة النبوة ومن توجيه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - علها تردنا إلى صوابنا، وتلم شعث قلوبنا ونفوسنا، وتعيدنا إلى حقيقة ما يملأ هذه النفوس من الغنى غنى الإيمان ومن اللذة لذة الطاعة ومن الراحة راحة الإقبال والتعلق بالله - عز وجل -، إلى غير ذلك مما نعلمه.

أسأل الله - عز وجل - أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يرزقنا رزقاً حلالاً طيباً، وأن يبارك لنا فيه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply