بعد اغتيال الجميل إلى متى يظل الفاعل ضميراً مستتراً؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف يمكن قراءة عملية اغتيال وزير الصناعة اللبناني بيير الجميل، هل نضعها في إطار المخطط الصهيوني الأمريكي لتفجير الأوضاع الداخلية في المنطقة العربية بغية إعادة ترتيب أوراقها فيما يعرف بـ"الفوضى الخلافة"، أم نضعها في إطار لعبة التوازنات السياسية الداخلية في لبنان، أم نتجه صوب الأمم المتحدة التي أصدرت في يوم الاغتيال قراراً بإنشاء محكمة خاصة لقتلة الحريري، أم أن الأصابع السورية كانت حاضرة في تلك العملية بغرض وقف تلك المحكمة؟

أسئلة كثيرة لا تقل أهمية عن أسئلة أخرى حائرة تدور حول: دفتر الاغتيالات في لبنان.. متى تطوى صفحاته؟ وإلى متى يظل الفاعل وراء كل عملية اغتيال ضميراً مستتراً؟ وهل يتخطى لبنان هذا الحادث أم يغرق في أتون حرب أهلية جديدة؟ وأخيراً وليس أخراً من هو الخاسر (وليس المستفيد) في هذه العملية هل سوريا وحلفاؤها أم الحكومة اللبنانية وأعوانها، أم واشنطن، وهل يمكن أن تخسر إسرائيل؟ أسئلة كثيرة طرحتها عملية اغتيال الوزير اللبناني بيير الجميل!!

 

بيير الجميل لماذا؟

ينتمي وزير الصناعة اللبناني بيير الجميل إلى عائلة لبنانية مسحية ذات تاريخ عريق في العمل السياسي اللبناني، فالجد فهو "بيير الجميل" مؤسس حزب الكتائب اللبناني، والسياسي البارز، والأب " أمين الجميل" سبق له تولي منصب رئاسة الجمهورية، وهو المنصب نفسه الذي تقلده عمه "بشير الجميل" قبل اغتياله في عام 1982م.

ولد بيير الجميل في بكفيا في المتن الشمالي في سبتمبر من عام 1972م، وتلقى علومه في مدارس الفرير الفرنسية، ثم أكمل تعليمه الجامعي في جامعة الحكمة حيث نال منها إجازة في الحقوق.

ويعد الوزير اللبناني أحد أعضاء تجمع 14 آذار المناوئ لسوريا، وعرف عنه مؤخراً مواقفه المنتقدة علناً لدمشق وحلفائه في الداخل وبخاصة حزب الله، حيث سبق أن اتهمه بالخداع وإتباع أساليب "إرهابية".

أما عن الحزب الذي ينتمي إليه الجميل فهو "حزب الكتائب" الذي يعد أحد أبرز ممثلي اليمين المسيحي الماروني، والذي لعب دوراً رئيسياً في الحرب الأهلية الدموية التي عصفت بلبنان خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كما أن هذا الحزب عرف عنه عداءه للقومية العربية، فضلاً عن تحالفه مع الكيان الصهيوني خلال اجتياح لبنان، ودخوله في صراع مرير لكي تبقى المارونية المسيحية مهيمنة على الساحة السياسية اللبنانية.

وبالنظر إلى تاريخ بيير الجميل السياسي فهو قصير بالطبع نظراً لحداثة سنه، حيث انتخب في عام 2000 عضواً في البرلمان اللبناني ليصبح أصغر نائب في البرلمان، وقد أعيد انتخابه عام 2005 ليختاره رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة وزيراً للصناعة حتى تم اغتياله ظهر الثلاثاء 21 نوفمبر 2006 ليكون بيير أول وزير لبناني يقتل وهو في الحكومة بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.

 

اغتيال الجميل الخاسر والمستفيد:

القراءة الموضوعية للظروف التي أحاطت باغتيال بيير الجميل تجعل كل الأطراف مستفيدة وخاسرة في آن واحد من عملية القتل هذه، ومن ثم فإن النقطة المفصلية هنا تتعلق بأكثر الأطراف خسارة إذا كنا بصدد محاولة البحث عن هذا الضمير المستتر الذي يقف وراء عملية اغتيال وزير الصناعة اللبناني.

وقبل الحديث عن حسابات الربح والخسارة لا بد من الإشارة إلى أمرين: أولهما أن الساحة اللبنانية تبدو منقسمة إلى فريقين يتبادلان الاتهامات بالقتل.

الفريق الأول: يطلق عليه مجموعة 14 آذار، ويضم تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري، والحزب التقدمي الاشتراكي الذي يقوده وليد جنبلاط، وحزب الكتائب اللبنانية الذي ينتمي إليه الوزير القتيل، وهذا الفريق يجد مساندة من بعض الدول العربية إضافة إلى مساندة صريحة من قبل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب عموماً.

أما الفريق الأخر: فيضم حزب الله وحركة أمل (شيعة)، والتيار الوطني الحر الذي يقوده ميشيل عون، ويجد هذا الفريق دعماً من قبل سوريا وإيران.

الأمر الثاني: هو أن مكاسب أي فريق تحقق خسارة مباشرة بالفريق الأخر والعكس صحيح، من ثم فإننا سنكتفي بالإشارة إلى حجم المكاسب والخسائر التي يمكن أن تتحقق لسوريا وحلفاءها في لبنان، وهو ما يكشف بالطبع عن مكاسب وخسائر فريق 14 آذار.

تبدو سوريا أكثر الإطراف خسارة من عملية الاغتيال هذه، نظراً لأن أصابع الاتهام ستتجه مباشرة إلى دمشق بالوقوف مما يزيد من حجم المصاعب والضغوط الدولية التي تواجهها البلاد خاصة بعد اغتيال رفيق الحريري.

النقطة الثانية التي تجعل من سوريا أكثر الإطراف خسارة هو أن عملية الاغتيال جاءت في الوقت الذي كان يستعد فيه مجلس الأمن الدولي لإقرار إنشاء محكمة دولية خاصة لقتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، ومن ثم فإن عميلة الاغتيال هذه من شأنها تسريع وإعطاء هذا القرار دفعة معنوية على الأقل، وهنا نقطة جديرة بالاهتمام ألا وهي أن المحكمة الخاصة التي أقرها مجلس الأمن مساء الثلاثاء 21 نوفمبر 2006 أي في اليوم الذي قتل فيه بيير الجميل ستتمتع بصلاحيات تتخطى النظر في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، بمعنى أدق أن هذه المحاكمة تستطيع النظر في الجرائم التي ارتكبت بين مطلع أكتوبر 2004 وديسمبر 2005 أي منذ محاولة اغتيال الوزير والنائب مروان حماده حتى اغتيال النائب والصحافي جبران تويني، وهي جرائم تم تعليقها على الشماعة السورية.

النقطة الثالثة التي تجعل سوريا تتردد كثيراً قبل الإقدام على محاولة الاغتيال هذه ترتبط بالانفتاح الأخير الذي شهدته العلاقات السورية العراقية، وذلك على خلفية زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم لبغداد والتي تكللت بإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين.

زيارة المعلم التي حملت إشارات إلى الغرب وأمريكا على وجه الخصوص مفادها أن دمشق على استعداد للتعاون من أجل مساعدة واشنطن للخروج من الوحل العراقيº ليس من مصلحتها بالطبع أن تبعث في ذات اللحظة بإشارة سلبية تقوض النتائج الايجابية التي يمكن تجنيها دمشق.

وحول هذه النقطة بالذات تساءل روبرت فيسك في مقالة له بصحيفة الاندبندنت البريطانية في عددها الصادر يوم الأربعاء 22-11-2006 قائلاً: لماذا اغتيل بيير الجميل بعد ساعات من إعلان سوريا استعادة علاقاتها مع الحكومة العراقية الموالية لأمريكا بعد ربع قرن من القطيعة؟

الجدير بالملاحظة أن صحيفة الفاينانشيال تايمز اعتبرت أن جهود إعادة سوريا إلى الحقل الدبلوماسي باءت بالفشل بمقتل بيار الجميل، مشيرة إلى إن الحادث قد يشكل ضربة لتوني بلير الذي أوفد مبعوثاً له إلى دمشق في وقت سابق في محاولة لحمل سوريا على إعادة التفكير في مواقفها المعادية للكيان الصهيوني والحكومة اللبنانية.

إما عن حلفاء سوريا في لبنان خاصة حزب الله وحركة أمل (شيعة) فإن خسارتهم لا تقل عن خسارة سوريا، حيث أن عملية الاغتيال هذه من شأنها تقويض مخططات حسن نصر بالنزول إلى الشارع للمطالبة بإعادة تشكيل الحكومة أو إجراء انتخابات نيابية مبكرة، لأنه من الصعب بل يبدو من المستحيل اللجوء إلى الشارع في ظل حالة الاحتقان السياسي القائمة في البلاد خاصة بعد اتهام رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل لسوريا بالوقوف وراء عملية اغتيال نجله، وذلك حسبما أوردت فضائية الجزيرة القطرية.

أما عن المكاسب التي يمكن أن يحققها هذا الفريق (التي تحسب في ميزان الخسائر لفريق 14 آذار) فتلخص في إمكانية إسقاط الحكومة التي فقدت حتى الآن 8 وزراء (بالاستقالة)، ثم اغتيال الوزير بيير الجميل، مما يجعل الحكومة على شفا السقوط دستورياً في حال "خروج" عضو جديد منها سواء بالاستقالة أو الاغتيال.

غير أن هناك نقطة وحيدة يمكن اعتبارها خسارة لجميع الفرقاء في لبنان والتي تتمثل في أن الحادث يمكن أن يجر البلاد إلى حرب أهلية تهدد بقاء الحكومة اللبنانية التي عانت الأمرين لتحقيق الوحدة الوطنية بعد المواجهة الحربية بين الكيان الصهيوني وحزب الله في شهر يوليو الماضي، مما يفتح الباب أمام استفادة أطراف أخرى غير عربية كإيران التي يهمها لفت الانتباه عن برنامجها النووي، أو فرنسا التي تحلم بالعودة ثانية، أو الولايات المتحدة التي لم تتخل بعد عن "فوضتها الخلاقة" فهل يعود الضمير المستتر على واحد من هؤلاء الثلاثة؟.

 

مستقبل لبنان:

لا يخفي الكثير من المعلقين والمحللين خشيتهم من دخول لبنان في نفق مظلم جديد شبيه بما عاشته البلاد من حرب أهليه في أواخر السبعينات والثمانيات من القرن الماضي، خاصة وأن الظروف الداخلية تبدو شبيهة بما جرئ آنذاك، حيث تعرض جد "بيير الجميل" الذي كان يحمل الاسم ذاته لمحاولة اغتيال توفي فيها أربعة أشخاص، قام على إثرها أعضاء من حزب الكتائب بتصفية 27 عاملاً فلسطينياً، مما أشعل فتيل حرب أهلية طاحنة في البلاد دامت حتى عام 1990.

وإذا كان البعض الأخر يستبعد حدوث هذا السيناريو وذلك نظرة إلى خبرة المعاناة التي اكتسبها اللبنانيون من ظروف الحرب الأهلية التي دمرت الأخضر واليابس، إلا أن الأعين ستظل متيقظة خشية أن تضرب رصاصات اغتيال الجميل في أكثر من اتجاه على حد تعبير صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، حيث أثارت المخاوف من حدوث مظاهرات وأعمال عنف، ومن ناحية أخرى أثارت مخاوف من تدشين سياسة جديدة تقوم على إسقاط الحكومات بنيران "الاغتيالات".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply