الروح 'الثورية' تجتاح المناطق الروسية:
أثارت الثورات التي حصلت مؤخراً في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزستان تساؤلات عديدة لدى أوساط النخبة في موسكو التي تستعد لمرحلة "ما بعد 2008": هل يمكن الإطاحة بجماعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟، وفي حال أمكن ذلك، ماذا سيكون لون تلك "الثورة"، بعد "الثورة الوردية" في جورجيا، و"البرتقالية" في أوكرانيا؟
* روسيا تفقد دائرة نفوذها السابقة:
يلقب الرئيس الروسي بوتين في الأوساط الغربية بقيصر روسيا الجديد على اعتبار أنه صاحب رؤية تهدف إلى إعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي السابقة، ولكن في إطار روسي هذه المرة، فقد أنشأت روسيا مجموعة الدول المستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وهي تضم 12 جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق على أمل أن تحافظ روسيا على دائرة نفوذها، لكنّ الضغط الأطلسي والأمريكي باتجاه روسيا ومحاصرتها، إضافة إلى الثورات الملوّنة التي اندلعت في منطقة النفوذ هذهº دفع بوتين إلى القول: "إذا كنا قد انتظرنا من مجموعة الدول المستقلة نجاحات خاصة في جميع المجالات، فإن هذه لم تتحقق، ولا يمكن أن تتحقق في الوقت الذي تمر فيه هذه المنظومة بأزمة كبيرة"، لاسيما بعد أن سعت روسيا ( بدون نجاح يذكر) من خلال مجموعة الدول المستقلة إلى تنسيق سياستها ومصالحها مع سياسة ومصالح باقي الأعضاء من أجل الإبقاء على نفوذها، لكن كل ذلك فشل مما دفع بعض الأصوات اليوم إلى المطالبة بإلغاء هذه المجموعة.
هذا فيما يبدو فلاديمير بوتين عاجزاً بلا حول ولا قوة منذ وصوله إلى السلطة عام 2000 أمام انهيار نفوذ روسيا في المناطق التي كانت لزمن طويل خاضعة لسيطرتها، فمنذ 2003 واجه هذا الضابط السابق في المخابرات الروسية (الكي.جي.بي) الذي كان يحلم بأن يعيد لروسيا أمجاد القوة العظمى.
بدورها بدأت جمهورية مولدافيا السوفيتية السابقة - التي يرأسها شيوعي تولى أساساً السلطة بدعم من موسكو - التوجه إلى المنظومة الأوروبية وليس لمنظومة مجموعة الدول المستقلة التي تشكلت بعد تفتت الاتحاد السوفيتي، وفي هذا الوقت بالذات حصلت ثورة قرغيزستان التي دفعت الرئيس الروسي إلى الاعتراف بأن قدرة موسكو على فرض إرادتها على منطقة من العالم كانت خاضعة سابقاً لروسيا لم تعد كما كانت عليه قبل عقد من الزمن.
* هل يفعلها القوميون الروس:
من المفترض أن تنتهي في العام 2008 ولاية فلاديمير بوتين الضابط السابق في أجهزة الاستخبارات السابقة "كي جي بي" الموجود في الحكم منذ آذار/مارس 2000، وتحضر أوساطه - التي تضم العديد من مسئولي أجهزة الاستخبارات - الأجواء لتعيين خلف له يحظى بمصداقية ويشكل استمرارية للحكم، فيما الجميع ينتظر ويراقب لعل ثورة تلوح في الأفق، بعد أن أثبتت العديد من التقارير أن الولايات المتحدة دعمت الثورات السابقة في المناطق المذكورة، وبالتأكيد فإن هذا الدعم لم يكن عملاً خيراً.
ويمكن القول: إن أنصار روسيا القومية والليبراليين قد استبشروا بهذه الثورات، وهم اليوم يحرضون على ثورة في روسيا، فيما ترجح بعض الأوساط أن القوميين الروس المتطرفين يعدون لشيء من هذا القبيل، فقد اعتبر رئيس بلدية موسكو يوري لوجكوف (الذي شعر برياح التغيير) في حديث له أمام طلاب جامعة موسكو أن "ثورة" أصبحت ممكنة الآن في روسيا، وأضاف أن عمل الحكومة بهذه الطريقة وضع المجتمع في حالة قلق دائمة".
هذا فيما يعتبر القوميون الروس أن الفرصة أصبحت مواتية جداً أكثر من أي وقت مضى للقيام بثورة في روسيا خاصة بعد سلسلة الثورات السابقة التي حصلت، معتقدين أنّ صورة بوتين القيصر اهتزّت، ولم تعد قوية كالسابق نتيجة للثورات الملونة، مستغلين بعض العوامل التي - كما يقولون - من شأنها أن تسرّع في اندلاع ثورة، وأبرزها:
- تذمّر الأوساط الاقتصاديّة من عدم وجود أية إصلاحات تشجّع على الاستثمار والانفتاح، في حين أن الإصلاح الضريبي الذي تكثر فيه التهديدات القضائية يترجم عبر رشاوى ضخمة على حد قول رجال الأعمال، وهو ما يعني انتشار الفساد والمحسوبية والإقطاعية على نطاق واسع في روسيا.
- تزايد الاستياء الشعبي من جراء إصلاح اجتماعي لم تحضر له جيداً الحكومة التي ألغت بشكل مفاجئ في مطلع كانون الثاني مساعدات كثيرة موروثة عن النظام السوفيتي السابق، مما أدى إلى إفقار المتقاعدين والطلاب والعسكريين، وقد أُدخل إصلاح آخر لا يحظى بتأييد أيضاً وهو إلغاء الإعانات للسكن.
- ظهور نزاعات في أوساط الرئيس حول تقاسم الريوع الاقتصادية، أو خلافات حول السياسة الواجب إتباعها.
بالإضافة إلى رواسب وعوامل عديدة دفعت الخبير السياسي فلاديمير بريبيلوفسكي إلى القول: "أعتقد أنه من الآن وصاعداً أصبح من الممكن حصول ثورة في روسيا، وأن التظاهرات المعارضة للإصلاح الاجتماعي أظهرت وضعاً جديداً ولا ينقص روسيا سوى قائد"، ويرى البعض أن برييلوفسكي يقصد بقوله هذا أنّ القوميين الروس لا ينقصهم سوى زعيم قائد يوجّههم لتندلع الثورة.
هذا ويقف الليبراليون إلى جانب القوميين في تحقيق الهدف وهو إشعال ثورة في روسيا على غرار الثورات الملونة، لكنهم يعانون من تشرذم كبير، وهم لم يتمكنوا أبداً من توحيد قواهم لفرض أنفسهم على الساحة السياسية، حتى وإن كانوا يعدون باتحاد مستقبلي بين يابلوكو (بقيادة غريغوري يافلنسكي) و"اس بي اس" بزعامة ايرينا خاكامادا وبوريس نيمتسوف واناتولي تشوباييس، و"لجنة 28" بزعامة غاري كاسباروف الذي غادر لتوه عالم الشطرنج.
* أمريكا تشنّ حرب ثورات ساخنة على روسيا:
في موازاة الهجمة التي يشنها القوميون الروس المتشددون في الداخل واللبيراليون على الرئيس بوتين، تفيد التقارير أن الولايات المتحدة كانت وراء الثورات التي اندلعت في باحة الاتحاد السوفيتي السابقة من الناحية السياسية والاقتصادية لتجنيب الناحية العسكرية، والتي قد تدفع الدب الروسي إلى التوحش والمجابهة، فعلى الرغم من أن الاتحاد السوفيتي انهار منذ عام 1991 إلا أن أوساطاً عديدة داخل الولايات المتحدة لازالت ترى أن موسكو هي أكثر الدول خطورة على الأمن القومي الأمريكي، وحتى على نفوذها العالمي، بل روسيا في طليعة هذه الدول القليلة في عالم القطب الواحد، وعليه فإن هذه الأوساط ترى محاصرة روسيا، وتفكيك دائرة نفوذهاº الحل الأمثل لإضعافها تمهيداً للقضاء عليها عبر دفعها للانخراط في إحدى التجمعات تحت لواء الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال فإن الخيار العسكري أمر غير ممكن مع القيادة الروسية التي يعتقد الأمريكيون أن ذلك من شأنه أن يزيدها صلابة وقوة، فكانت إستراتيجية "الثورات الديمقراطيّة" الحل الأمثل أمام فريق بوش منعاً للاصطدام المباشر مع روسيا، وأملاً في اندلاع ثورة روسية هذه المرة تطيح بالقيصر بوتين.
ويقف في طليعة المواجهة ضدّ القوميين الروس المتشددين وخطط أمريكا تيار روسي ينادي بروسيا قوة عظمى، ولها تأثير على دول الاتحاد السوفيتي السابقة إن لم تكن علاقات مودة وتحالف، ومن أبرز هؤلاء الكسندر دوغين المستشار السابق في البرلمان الروسي، ورئيس خبراء الجيوبولتيكا التابع للمجلس الاستشاري المتخصص بشؤون الأمن القومي التابع لرئاسة مجلس النواب الروسي، وقائد حركة "أورواسيا العالمية"، وهو يرى أن روسيا دون دول الاّتحاد السوفيتي السابق هي مجرد ظل، ولا يمكنها أن تكون قوّة عالمية إذا التزمت الجانب القومي الذي يطالب به المتشددون، وعليها التكامل مع هذه الدول، وعقد تحالفات ثابتة، وأن يكون لها قيادة ذات طموح وقادرة على تحقيق المراد منها.
ومن المنادين الآخرين بعودة القوة العظمى رئيس الحزب الشيوعي غينادي زيوغانوف الذي انتقد بشدة الأحداث الأخيرة في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزستان معتبراً أنها تهدد بتقويض آخر بقايا الإمبراطورية الروسية، وقد نقلت عنه وكالة ريا نوفوستي قوله: "إذا لم نفعل شيئاً فان العملية ستمتد إلى المنطقة السوفيتية السابقة كلها، وتدمر روسيا نفسها".
وقد دفعت هذه التحذيرات البرلمان الروسي إلى تشكيل إدارة لمكافحة "الثورات" في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق والتي كانت في حالتي أوكرانيا وجورجيا ثمرة عمل منظمات غير حكومية يمولها الأميركيون الذين يعتبرون أن بوتين ما زال مشاغباً، وإن الولايات المتّحدة يجب أن تبحث عن رجل آخر في موسكو ليكون زعيماً للروس، وفاتحاً لتاريخ جديد لروسيا بعيداً عن ذكريات الاتحاد السوفيتي، ومطلب عالم متعدد الأقطاب الذي يلّح عليه بوتين في جميع المناسبات، فهل ستندلع "ثورة حمراء في الساحة الحمراء لموسكو؟"
بكل الأحوال يجب الأخذ بالحسبان أن بوتين وأنصاره وأتباع منهجه مصممون على الاحتفاظ بالسلطة أكثر بكثير من المحافظين في نهاية الثمانينيات، حين أدت البريسترويكا إلى انهيار الاتحاد السوفيتي
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد