أي علمانية تناسب البلاد الإسلامية؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن هذا السؤال مهم ومحفز لأكثر من سبب: فهو تسليم – كما يظهر – بتعدد العلمانيات من جهة، كما أنه من جهة ثانية يبدو وكأنه يتساءل - ضمن تنوع العلمانيات - عن أيها يناسب البلدان الإسلامية، فهل العلمانية عقيدة عالمية ونظام كوني يحتم على كل الناس الالتزام به؟ أم أن العلمانية بتأويلاتها المختلفة تجربة خاصة أفرزتها سيرورة تاريخية معينة؟

لقد ظهرت العلمانية، بمختلف مدارسها، في بيئات نصرانية، فهل كان هذا مجرد صدفة؟ إن النصرانية، تم التبشير بها أول الأمر في فلسطين على يدي نبي الله عيسى - عليه السلام-، ثم قامت الدولة الرومانية بنقل مركز الكنيسة من فلسطين إلى بيزنطة، وبعد ذلك نقل هذا المركز إلى روما، علما بأن كلا من بيزنطة وروما لم تعرفا نزول أي نبي أو ديانة سماوية، ومع ذلك فقد اكتسبتا قداسة مركزية أضفتها عليهما الكنيسة وعامل. فهل هذا النقل كان تعسفاً؟ أم أنه يرجع إلى إرادة الكنيسة نفسها التي تدعو إلى إعطاء "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"؟ وبالتالي قابليتها الذاتية للفصل بين ما هو روحي وما هو دنيوي؟ أم أن الأمر يرجع إلى هذين العاملين معا؟

وبعد انتقال الكنيسة إلى أوربا، واتخاذها من روما مركزاً لها، شهدت علاقة الكنيسة بالسلطة الحاكمة عدة تطورات، بداية من الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية إلى توازي السلطتين معا، إلى الفصل بينهما في مطلع القرن العشرين بعد كفاح مرير خاضه العلماء والمثقفون في عصور التنوير نظراً لأن المؤسسة الكنسية عرفت عدة ممارسات مستهجنة من قبيل مصادرة حرية التفكير والبحث العلمي، مما أدى إلى إعدام عدد من العلماء والمفكرين، وبيع "صكوك الغفران" أو حجبها عن الناس، وممارسة الدعارة بين الرهبان والراهبات مع دفن الولدان في أقبية الكنائس، أو التحالف مع الإقطاع والوقوف ضد دعوات التحرر والانعتاق...

أما في ربوع الإسلام، فقد كانت هناك تصورات وممارسات ومسارات أخرى مختلفة تماما، فالإسلام ذاته يتشكل من منظومة متماسكة وشاملة لا يمكن فصل مكوناتها: عقائد غيبية، وعبادات منتظمة، وتشريعات تنظم كل جوانب الحياة اليومية، وليس للفقهاء إلا دور اجتهادي واستنباطي لمواكبة مستجدات الحياة، علما بأن دائرة الفقهاء دائرة علمية مفتوحة، وليست مؤسسة دينية منغلقة المنافذ أو هرمية التنظيم، كما أن قبلة المسلمين لم تخضع لأية تنقلات تعسفية من قبل السلطات المتعاقبة في دمشق أو بغداد أو القاهرة أو مراكش أو قرطبة... ولم تكن هناك مؤسسة دينية تعدم العلماء والمثقفين، أو تتوسط بين العباد وربهم، أو ترتكب في دهاليزها فضائح جنسية أو أخلاقية, وحتى إذا وجدت بعض الانحرافات فإنها ترتبط بالسلطة أو بالأشخاص المرتكبين لها وليس بالدين نفسه أو بالأحرى بمؤسسة دينية لا وجود لها أصلا. وحتى في أسوأ الأحوال فإن بعض التأويلات أو الممارسات غير الملائمة قد ارتبطت بتيارات فكرية كالمعتزلة قديما، أو بعض الحركات الإسلامية حديثا. ولهذا السبب لم تجد حتى أكبر الحركات اللادينية راديكالية داخل الأمة الإسلامية مؤسسة دينية محددة تناطحها أو تصارعها، بل إنها تجد نفسها معزولة داخل مجتمعاتها كلما جادلت في قضايا مرتبطة بالدين الإسلامي بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فالأمة إذن هي التي احتضنت الدين، وسهرت على حمايته، فهل يتصور أن يطالب الحاضن أو يطلب منه الانفصال عن محضونه؟! أو يقف صامتاً أمام من يريد انتزاعه منه؟

وإذا عدنا إلى العلمانية ذاتها، وجدنا أن لها مدارس واتجاهات مختلفة نلمسها في مختلف التجارب والتصورات المطروحة، ويمكن على سبيل المثال لا الحصر إيراد التوجهات التالية:

 

1-العلمانية هي فصل للدين عن الدولة:

باعتبار أن الدين شأن فردي ينظم العلاقة بين الإنسان وخالقه، وأن الدولة مفهوم اجتماعي بشري ينظم علاقة الناس بالدولة، وعلاقة الناس ببعضهم البعض، وهذا التأويل قد ينسجم إلى حد بعيد مع التصور الكنسي نفسه، إلا أن السياسة والممارسات السياسية قد يكون لها اهتمام بالشأن الديني باعتبار جانبه البشري الاجتماعي.

 

2-العلمانية هي فصل للدين عن السياسة:

إن هذا التوجه أو التأويل أقل تساهلا تجاه الدين من التوجه الأول، فطبقاً لهذا التوجه لا ينبغي أن يكون للدين أي تأثير مهما كان صغيراً في برامج الدولة أو الأحزاب السياسية لا من قريب ولا من بعيد.

 

3- العلمانية هي فصل الدين عن الحياة:

هذا التوجه أكثر راديكالية ويبرز أكثر ما يبرز لدى بعض "الفرانكفونيين" سواء داخل فرنسا أو خارجها، وهو التوجه الذي أجج المعارك من أجل قضايا دينية شخصية مثل الحجاب، بل واعتبرها تهديدا للعلمانية والديمقراطية مع أنها قضايا فردية بحتة، و هذا التوجه يجعل من العلمانية عقيدة دينية وضعية متطرفة.

 

4- العلمانية هي القضاء على الدين:

ويتمثل هذا التوجه أساسا في "الفكر الماركسي" الذي يرى في الدين مجرد "أفيون" للشعوب، ويطرح العقيدة الماركسية والإلحادية بديلا للدين والفكر الديني، وهو أقرب ما يكون للتوجه السابق، مع فارق هو أن التوجه السابق يبيح التعدد والديمقراطية للعلمانيين دون غيرهم (المؤمنين بالعقيدة أو الدين العلماني) بينما لا يؤمن التوجه الماركسي بالتعددية أصلا، أما الديمقراطية عنده فهي مركزية لا يسمح بها سوى "للبروليتارية" وحلفائها المنضوين في الأحزاب الماركسية.

أما على مستوى الممارسة، فلقد أفرزت العلمانية "الأنجلوسكسونية" أنظمة سياسية أكثر تساهلا تجاه الدين، ففي الولايات المتحدة الأمريكية -البروتستانتية- نجد نظاماً ديمقراطياً رئاسياً يفصل بين السلطات فصلا قاسياً، أما فيما يتعلق بالدين فإنه يسلك منهجا معتدلا، بحيث يسمح للمدارس بتعليم مبادئ الدين للأطفال، وعادة ما يجاهر رؤساء الدولة بالممارسة الدينية التي يعتبرها المواطنون ميزة إضافية للمرشحين للرئاسة، فضلا عن أن مختلف مناطق البلاد تشهد صحوة دينية قوية لا تلقى أية معارضة أو مصادمة من طرف الدولة ومؤسساتها، بل إنها تلقى كل القبول والترحيب.

وفي إنجلترا -الأنجليكانية- أفرزت الممارسة ديمقراطية برلمانية مع فصل مرن للسلطات في ظل نظام ديني غير علماني، وتعتبر هذه الديمقراطية عند علماء السياسة والقانون الدستوري أنضج وأعرق الديمقراطيات، وأكثرها سماحة واعتدالاً واستقراراً.

أما في فرنسا –الكاثوليكية- فقد أفرزت العلمانية، نظاماً ديمقراطياً شبه رئاسي، يتوسط بين النظامين الأمريكي والبريطاني سياسياً، وأقل سماحة منهما دينياً، وأكثر خصومات سياسية، وأشرس معارك حزبية وأيديولوجية.

إن هذه الفروقات السابقة هي التي جعلت البعض يستنتج أن التجربة الديمقراطية الغربية تكون أكثر مرونة وسماحة إذا ارتبطت دستوريا بالدين (أنجلترا نموذجاً)، وأقل مرونة إذا ارتبطت واقعياً بالدين ولم ترتبط به دستوريا (تجربة الولايات المتحدة الأمريكية)، ومنعدمة المرونة إذا انفصلت دستوريا وعمليا عن الدين (التجربة الفرنسية)، بينما يذهب البعض الآخر إلى أن درجة المرونة أو التصلب لهما ارتباط بالمذهب الديني، فهو منعدم المرونة في الوسط الكاثوليكي (فرنسا) ومتوسط المرونة في الوسط البروتيستانتي (ألمانيا وأمريكا)، ومرن جدا في الوسط الأنجليكاني (إنجلترا) وبغض النظر عن هذا التوجه أو ذاك, فإن التجارب الديمقراطية الغربية ذاتها تدل على أنه لا يوجد تلازم حتمي بين الديمقراطية والعلمانية أو الديمقراطية واللادينية، فالماركسية التي أبعدت الدين جملة وتفصيلا كانت أقل الأنظمة ديمقراطية وتسامحاً على الإطلاق.

أما في العالم الإسلامي المعاصر، فقد تعددت التجارب والمسارات، ففي تركيا ومنذ أكثر من سبعين عاما نهج أتاتورك أكثر التوجهات العلمانية تطرفاً، لكن هذا المسار لم يؤت أكله سواء على الصعيد الاجتماعي أو السياسي، فعلى الصعيد الاجتماعي تعرف تركيا صحوة دينية متنامية جوبهت بردات فعل رسمية عنيفة وتراجعات خطيرة على صعيد السياسة والتعليم والإعلام وغيرها، وعلى الصعيد السياسي استطاع التيار الديني اكتساح الانتخابات والوصول إلى سدة الحكم رغم كل العراقيل والمساطر المعقدة المعتمدة الأمر الذي أدى إلى عسكرة الديمقراطية وانسداد آفاقها اجتماعيا وسياسيا وحتى اقتصاديا.

وفي تونس حاول نظام بورقيبة اقتفاء آثار "أتاتورك" فعصفت به الصحوة الدينية دون أن يتمكن حتى من ترسيخ ديمقراطية عسكرية مماثلة للنموذج التركي، وحاول خلفه ترميم الواجهة الديمقراطية بالاستناد على القوى العلمانية المعزولة شعبياً، فنتج عن ذلك نظام ديكتاتوري معزول داخلياً وخارجياً، بل وقعت تناقضات حتى مع التيارات العلمانية التي ساندته في بداية الأمر لاقتلاع الحركة الإسلامية. فلما خلت له الساحة فتك بالجميع.

وفي أندونيسيا حاول "سوهارتو" بناء علمانية أقل تطرفا، لكنها لم تعمر إلا مؤقتا تحت سلطة الجيش والشرطة، لتسقط مؤخراً تحت ضغط الصحوة الإسلامية، لتستأنف الدولة مسارها في ظل نظام أكثر تسامحاً مع الدين وبتمثيل أكبر للأحزاب المستندة إلى المرجعية الدينية.

ويضيق بنا المجال لو أردنا استعراض كل التجارب في باكستان وماليزيا ومصر والسودان، والجزائر والمغرب ونيجيريا... وخلاصة القول أن العلمانية تجربة بشرية محدودة لا ينبغي إضفاء صفة الكونية عليها، وهي متعددة التوجهات والمشارب وليست توجهاً واحداً وموحداً، كما أنها فشلت في التطبيق خارج بلدانها وبيئتها وخصوصاً في البلدان الإسلامية، وهذا يحتم علينا ابتكار أساليب جديدة ملائمة لمسارنا التاريخي ولجذورنا الحضارية، ولبيئتنا الحاضرة، ففي كل أرجاء العالم، فإن الماضي يتحكم في بناء الحاضر، والحاضر يتحكم في بناء المستقبل، وأي إغفال لهذه القاعدة قد يترتب عليه انتحار حضاري أو انسداد وتوقف في مسار التنمية والتقدم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply