انهمكت وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة في الآونة الأخيرة في متابعة تفاصيل وتداعيات الرسومات الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة (غيلاندز بوستن) الدانمركية، والتي "حاول" رساموها من خلالها "الإساءة" إلى النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -.
وبدا الأمر مع تسارع الأحداث وتواتر تداعياتها وكأن العالم برمته قد انقسم إلى "فسطاطين"، وتمايز على أساس الموقف من تلك الرسومات بين رافض ومدين للإساءة التي شعر بها المسلمون من خلال محاولة الإساءة إلى نبيهم الكريم (نقول "محاولة" لأن المقام الرفيع للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أسمى من أن تمسه رسومات مسيئة)، ومن أيدهم من شعوب العالم تحت مظلة الدفاع عن حرمة المقدسات والمعتقدات الدينية، وبين مؤيد لتلك الرسومات أو على الأقل مستغرب لحجم "الضجة" التي افتعلها المسلمون - على حد رأيهم -، مما يدخل تحت بند "حرية التعبير"، والتي لا يسلم من "أذاها" كما تبين حتى المسلمات والمعتقدات الدينية.
وفيما بدا أن العالم قد نسي دعوات الحوار بين الحضارات، وسبل التعايش فيما بينها، وتراءى للمرء أن العالم يسير رويداً رويداً نحو صراع كوني، واصطراع حول تقييم المبادئ والقيم، وترتيب سلم أولوياتها، أخذت الأفعال وردودها تتوالى بين "الفسطاطين"، فعمت المظاهرات والإدانات والدعوات إلى المقاطعة الاقتصادية بوصفها أضعف الإيمان أرجاء العالم الإسلامي الجريح والمصدوم بنظرة الغرب إليه، وتقديره لمعتقداته وشعائره، وتصاعدت الأمور مع استدعاء السفراء (السعودية، وسوريا، وليبيا، وإيران) وإغلاق الممثليات الدبلوماسية، وصولاً إلى مهاجمة السفارات الدانمركية والنرويجية (التي أعادت صحيفة فيها نشره تلك الرسومات)، وإحراقها وتدمير مقتنياتها، وإصدار الفتاوى بمهاجمة الغربيين بوجه عام، والدانمركيين بوجه خاص، بل والدعوة إلى قتلهم!؟.
في الوقت الذي أثارت فيه المواقف الرسمية والشعبية التي اتخذها العالم الإسلامي والعربي حفيظة الدول الغربية و"حميتها"، وفزعت صحف الفسطاط الآخر لنصرة الدانمرك ومن والاها، وتم إعادة نشر تلك الرسوماتº نكاية بالمسلمين ونصرة لموقف حكومة الدانمرك الرافض لتقديم الاعتذار أو معاقبة المسيئين بذريعة الحفاظ على مبدأ حرية التعبير والمنافحة عنه، ولا يملك المرء إزاء تلك الرسومات المسيئة سوى أن يدين أي محاولة للإساءة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعتبر أي محاولة للإساءة إلى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعدّ ذلك إساءة للمسلمين جميعاً، ولا صحة بعد هذا لما تثيره الدعوة إلى تقديم الاعتذار، ومعاقبة المسيئين من التعارض أو التناقض مع مبدأ حرية التعبير التي ينادي بها الغرب، فتاريخ الغرب ذاته حافل بمحاولات إساءة مماثلة لبعض الشخصيات الرمزية (تشي غيفارا والملكة البريطانية على سبيل المثال)، والتي لم يتوان الغرب حينها من تقديم الاعتذار عليها، بل ومحاسبة المتسببين بها، ولعل القوانين التي ما فتئت تصدر في أوروبا حول تجريم مجرد التشكيك في أعداد اليهود في فيما يسمى بالهولوكوست، والتي طالت عدداً من أبرز مفكري الغرب أبرز مثال على ذلك، ولكن الإشكال الذي يطرح نفسه هنا يتلخص في السؤال عن توقيت نشر هذه الرسومات بما أحدثته من تداعيات وتجاذبات ودوافع المتسببين بها، ولا يمكن من حيث المبدأ إنكار معقولية التفسير الأولي الذي غذى مشاعر الغضب لدى المسلمين وتصرفاتهم، والمتمثل في التعصب والحقد الذي تكنه "فئة" من الغربيين على الإسلام والمسلمين، ورغم ذلك فإن الفترة الزمنية الطويلة التي مرت على نشر تلك الرسومات منذ حوالي خمسة أشهر، وتغاضي الجميع عن تداعياتها خلال كل تلك الفترة، ثم إعادة نشرها ثانيةº يطرح عدداً من التساؤلات حول تجاوز التفسير المتقدم، والبحث فيما وراء ذلك من أسباب ودوافع، ومع ملاحظة سلسلة الأحداث التي جرت في الآونة الأخيرة والتي يمكن تكثيفها سريعاً بفوز حركة الإخوان المسلمين في مصر بنسبة "معقولة" من مقاعد البرلمان المصري، (والتي كان من الممكن مضاعفتها لولا ما شاب تلك الانتخابات من تجاوزات وانتهاكات)، مروراً بانتصار حماس المدوي في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني على حساب فصيل السلطة الحاكم (فتح)، بما يمثله ذلك الانتصار المربك - إن جاز لنا التعبير - من استمرارية للمد الإسلامي على المستوى السياسي، وحالة الاستقطاب المتفاعلة بين إيران والغرب حول المشروع النووي الإيراني، والذي وصل أعتاب مجلس الأمن الدولي، وصولاً إلى خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس الأمريكي مؤخراً، و"بشر" فيه الأمريكيين والعالم بحرب طويلة الأمد على ما يسمى بـ "الإرهاب"، مستبدلاً بها ما كان يعرف بالحرب الباردة، جميع تلك الأحداث وتداعياتها يستخلص منها مع الأخذ بعين الاعتبار مركزية "إسرائيل" وأهميتها الاستثنائية على الأجندة الغربية - والأمريكية بوجه خاص - أن كلاً من توقيت نشر تلك الرسوم ودوافعها تتمثل في سعي الحكومات الغربية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر العالم، والغربي منه بوجه خاص، وتغذية الرهاب الغربي من الإسلام (الإسلاموفوبيا) حيال ما يمكن أن يقوم به المسلمون إزاء صنيعة العالم الغربي (إسرائيل) فيما لو تسلم الإسلاميون زمام الحكم في بلدانهم، بما يبرر تالياً استمرار الحرب على الإرهاب، والسياسات الغربية حيال الحركات الإسلامية حتى المعتدل منها، يضاف إلى ذلك فيما يخص الدول الاسكندينافية تغذية مشاعر الذعر والخوف والتوجس من تنامي ظاهرة انتشار الإسلام، وهجرة المسلمين المتزايدة إلى بلدان الشمال الأوروبي، إذ شكل المسلمون في الدانمارك على سبيل المثال الديانة الثانية فيها بواقع مئة وخمسين ألف مسلم ونسبة 3% من مجموع السكان، وإذا لم يكن القصد مما تقدم تبرير دعوات التهدئة، وإيقاف حملة المقاطعة الاقتصادية للدانمرك ومن والاهاº فقد أثبتت الأيام أنه السلاح الفعال المتبقي بيد المسلمين على المستوى الشعبي، إلا أننا وبالتوازي مع ذلك يجب أن ننظر بعين الاعتبار لمجمل الظروف والدوافع المكتنفة لتلك الحادثة، وترشيد سلوك الشعوب الإسلامية الغاضبة، وتوجيهها نحو الأفعال السلمية الأكثر فاعلية، والابتعاد عن كل ما قد يشوه صورة المسلمين أو يمعن في ذلك، بما يشكله ذلك من "وقود" مجاني لحرب الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها على أمتنا بذريعة مكافحة التطرف، ورفض الآخر، ونبذ قيم الحوار والتواصل وتعايش الحضارات، فحرمة الدم والمال - أياً كان مصدره - ثابتة في الشريعة الإسلامية، ولا يصار إلى تجاوز تلك الحرمة إلا حال وقوع مخالفة شرعية معتبرة، ويختص بذلك المخالف ذاته لا من يلوذ به، أو حتى ينتمي إلى عرقه أو دينه أو جنسه ((ولا تزر وازرة وزر أخرى)).
وفي تصريح لشيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي (تراجع عنه لاحقاً أو أنكره) عبّر الشيخ عن غضبه ورفضه للرسومات الدنمركية بقوله: «إنها رسومات تسيء إلى رجل ميت، ولا يجوز في شريعة أو قانون الإساءة إلى من لا يستطيع الدفاع عن نفسه»!؟، لا نختلف مع من انتقدوا كلام شيخ الأزهر، ورأوا فيه خطاباً سياسياً تخاذلياً ينسجم مع موقف الحكومات الرسمي في بداية الأمر على الأقل، فالنبي حي بين ظهرانينا بشرعه وذكره الخالد بيننا، فضلاً عن مخالفة كلامه ذاك - على فرض صحة نسبته إليه - للعديد من نصوص الشريعة المثبتة "لنوع" من الحياة للنبي - عليه الصلاة والسلام - (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي، فأرد عليه السلام)، لكن الرسالة التي أراد المسيئون إيصالها من خلال هذه الهجمة، والتي ألمح إليها شيخ الأزهر على ما في كلامه من صياغة سيئةº هي دق ناقوس الخطر من تنامي قوة المسلمين، وانتشار الإسلام دين التسامح والتعايش مع الآخر، والذي يهدد مصالح فئة منتفعة في الغرب وفي مقدمتها "إسرائيل"، والتمويه على جميع الممارسات الغربية الهادفة إلى محاصرة تلك الظاهرة المقضة لمضاجعهم من خلال استفزاز مشاعر المسلمين وإهانتها، والتركيز فقط على إبراز وجه الغضب والعنف لهذه الأمة، وهو ما حاولت الرسومات الدانمركية فعله لا الإساءة إلى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد