الفرقة الناجية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إنّ الحقّ واحد لا يتعدّد، وقد ورد في حديث الافتراق ـ وهو حديث حسن ـ ((أنّ هذه الأمّة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلا واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)).

وقد روي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه قال: ((وأضلّها فرقة وشرها: الداعية إلينا أهل البيت، آية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر)).

وقد جاء توضيح أمر الفرقة الناجية في حديث آخر متفق على صحته، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)).

وفي رواية عند مسلم: ((لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك)).

هذه الأحاديث الصحيحة تبين أن الحقّ واحد، وهو ما كان عليه الرعيل الأول من أصحاب رسول الله الذين تربوا على يده، ونهلوا من معينه الصافي، ومن تبعهم بإحسان إلى زمننا هذا، وإلى قيام الساعة، وهذا الحق لم يطرأ عليه تغيير ولا تبديل، وهو ما عليه سلف الأمّة من أهل السنة والجماعة، وكل من خالفهم في أصولهم فهو من الاثنتين والسبعين فرقة الذين حُكم عليهم بأنهم في النار، وهذا لا يعني أنهم جميعاً مخلدون فيها، بل قد يخرج بعضهم من النار بعد أن يطهر وينقّى، فيدخل الجنة.

وها هنا أمر مهم يخفى على كثير من الناس لا سيما في هذا العصر الذي قلّ فيه العلم، وكثر فيه دعاة الباطل والملبسون، وهو أن السلف ـ ومنهم الأئمة الأربعة ـ لم يختلفوا في شيء من أصول الدين[1]، وإنّما اختلفوا في بعض فروع الشريعة من المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها صريح، وذلك من محاسن الشريعة، حيث جعل الله للعقل مجالاً يصول فيه ويجول، بخلاف مسائل الأصول والاعتقاد، فلا مدخل للعقل فيها، وإنّما الواجب فيها التسليم والاتباع.

كما أن هناك أمراً آخر يلتبس على كثير من الناس، وهو أنهم لا يفرّقون بين إمام المذهب وأتباعه، فالحنفية ليسوا بالضرورة أبا حنيفة، كما أنّ المالكية ليسوا مالكاً، وهكذا الشافعية والحنابلة، فكثير من الحنفية اليوم في الاعتقاد ماتوريدية (نسبة إلى الماتوريدي، وقد خالفوا السلف في كثير من مسائل الاعتقاد)، وأبو حنيفة- رحمه الله - بريء من ذلك، كما أنّ كثيراً من المالكية والشافعية اليوم أشاعرة (نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، وقد خالفوا السلف في كثير من مسائل الاعتقاد).

ومالك والشافعي- رحمهما الله - بريئان من ذلك، بل إنّ أبا الحسن الأشعري نفسه رجع إلى اعتقاد السلف، وأعلن ذلك في كتاب ألفه، لكن أتباعه أصروا على اعتقاده الذي رجع عنه، وهذه من العجائب، لكن يبقى من كل مذهب طائفة على اعتقاد السلف الذي عليه إمامها، لم تغير ولم تبدل.

 

وكذلك في مسائل الفروع، فليس مذهب الحنفية في مسألة من مسائل الفروع هو بالضرورة مذهب أبي حنيفة، فإنّ أبا حنيفة قد لا يكون له قول أصلاً في المسألة، فيحدثها أصحابه، وكذلك باقي الأئمة، فإذا قيل إنّ الشافعية ـ مثلاً ـ يجيزون كشف وجه المرأة، فلا يعني أنّ هذا هو مذهب الشافعي، فإنّ الشافعي - رحمه الله - لم يرد عنه نص في ذلك، بل إنّ ظاهر نصوصه تدل على أنّه لا يرى ذلك.

والمقصود أنّه لا نجاة للعبد إلا باعتناق مذهب السلف الصالح في الاعتقاد، كما هو محفوظ ومدون، ومن اختار غير ذلك فقد اختار غير سبيل المؤمنين، وهو لا يخرج عن الاثنتين والسبعين فرقة المتوعدة بالنار.

وأمّا الفروع، فالأمر فيها واسع، والعبرة فيها بالدليل الساطع، والبرهان العقلي الناصع، مع التجرد عن الهوى الصارع، والصدق في الوصول إلى الحق القاطع، كائناً من كان من قال بها.

والله الموفق.

 

----------------------------------------

[1] هناك مسألة واحدة وقع فيها الخلاف، وهي مسالة دخول العمل في مسمى الإيمان حيث خالف فيها أبو حنيفة - رحمه الله - فأخرج العمل من مسمى الإيمان، وقد خالفه عامة السلف في ذلك، وبينوا خطأه - رحمه الله -، وهذه المسألة يعرفها صغار طلاب العلم، وفي هذا دليل على أنّ العصمة إنّما تكون للأنبياء. كما أنّ هناك مسألة أخرى من مسائل الفقه ولها تعلق بالاعتقاد يذكرها فقهاء الحنابلة رواية عن أحمد، وهي انعقاد اليمين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والرواية الأخرى لا تنعقد وهي الصحيحة، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ لم يقل به أحد من العلماء..(ينظر مجموع الفتاوى: 1/ 335).

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply