مراد يقلب الطاولة على ساترفيلد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

فعلها عبد الرحيم مراد وزير الدفاع اللبناني وقلب الطاولة على المبعوث الأمريكي 'ساترفيلد'º إذ لم يكتفِ في تصريحاته في مؤتمره الصحافي العاجل مساء الجمعة [25 مارس] بإيضاح أو فضح 'قصة سحب السفير الأمريكي' من لبنان وحضور ساترفيلد محله، ولكنه أيضاً شدد على أن ما يفعله ساترفيلد في لبنان هو تدخل أمريكي في الشؤون الداخلية اللبنانية, كما وصف دور المبعوث الأمريكي بالدور المشبوه - في أقوى تصريحات من مسؤول حكومي لبناني ضد الولايات المتحدة -، وكذلك هو فضح جوانب من التحركات الأمريكية في داخل لبنان، ووصفها بأنها ضد مصلحة لبنان، وسعي لفرض الهيمنة الأمريكية عليها، والأخطر فيما قاله مراد هو التلميح إلى احتمال تعرض لبنان لإنزال عسكري أمريكي أو فرنسي - هو لم يُحَدِّد -، وإن كان ألمح لكونه أمريكياً, وهو ما يعد الإشارة الأخطر من قِبَل مسؤول لبناني حول احتمالات تطور الأحداث في هذا البلد، بقدر ما كان قلباً للطاولة على رأس المبعوث الأمريكي.

مراد لم ينس أن يكشف بصفته وزيراً للدفاع ما دار بين المسؤول الأمريكي وقائد الجيش اللبناني من قبلُ, مشيراً إلى محضر اجتماع رسمي طلب فيه السفير الأمريكي استعجال خروج القوات السورية، ومشدداً على أن قائد الجيش اللبناني أكد للسفير الأمريكي عدم توافر القدرة لدى الجيش اللبناني على القيام بمهامّه في منطقة البقاع التي تمثل نحو 45% من مساحة لبنان.

قلَب مراد إذن الطاولة على المبعوث الأمريكي، وحذر اللبنانيين من إنزال عسكري أمريكي، وربط تحرك المعارضة بالمخطط الأمريكي، وحمل الذين أجبروا القوات السورية على الانسحاب نتائج تأثير هذا التعجيل على الأمن اللبناني، بل وحتى حمل مسؤولية عودة زراعة المخدرات في منطقة البقاع، ويبقى الأهم فيما قاله مراد هو ما خلفه من أسئلة أهمها:

هل يتعرض لبنان فعلياً إلى غزو أو عملية إنزال عسكري؟ وإن لم يكن الأمر كذلك فلماذا نبه مراد إلى ذلك, وهو وزير دفاع وليس شخصاً أو وزيراً عادياً؟! وأيضاً ماذا عنى مراد حينما قال" بأن الجيش اللبناني غير مهيأ لحفظ الأمن في البقاع"؟ هل قصد من ذلك القول أن ما جرى من إجبار القوات السورية على الانسحاب قصد منه الإخلال بالأمن اللبناني فقط؟ أم أنه كان يقصد التحذير من أن البقاع أصبح مفتوحاً أمام القوات الصهيونية؟ أم هو يعلن أن الجيش سيكون غير مسؤول حال فتح جبهة صراع من البقاع ضد الكيان الصهيوني؟ ماذا قصد مراد بالدقة؟!

 

تصريحات مراد.. التوقيت؟

جاءت تصريحات مراد في توقيتها مرتبطة بحدث ظهور نتائج أعمال لجنة الأمم المتحدة المكلفة بالتحقيق الأولي في حادث اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، أو هي تصريحات جاءت في إطار الرد اللبناني الرسمي على نتائج التقرير, أو كانت التصريحات التي أدّت دوراً مختلفاً ومتميزاً في إطار الرد الرسمي اللبناني.

كان الرئيس اللبناني إميل لحود قد استبق ظهور التقرير، بإشارتين:

 أولاهما: إقالة أو طلب بالاستقالة من القاضي الذي تولى التحقيق في واقعة اغتيال الحريري، وتعيين قاضٍ,، مع الإعلان بأن القرار جاء بناءً على طلب شقيقة الراحل الحريري.

وثانيهما: أنه أعلن قبل صدور التقرير مباشرة عن استعداد لبنان لقبول أية مساعدة دولية في التحقيق في واقعة الاغتيال.

وكلاهما مثّل تغييراً واضحاً عن موقفه السابق برفض كل تدخل أجنبي في إجراءات التحقيق، وفور إعلان نتائج التقرير تحدث وزراء الخارجية العدل والداخلية للصحفيين، فانتقدوا نتائج أعمال اللجنة سواء بالقول: إن استنتاجاتها غير موثقة وغير مبنية على أدلة, أو لأنها لم يكن لها صلاحية تسمح لها بالنتائج التي وصلت إليها، لكن المتابع لكل ما صدر من هؤلاء الوزراء الثلاثة يلحظ أن ثمة تراجعاً واضحاً في موقف السلطة الرسمية اللبنانية يتناغم مع تصريحات وقرارات رئيس الجمهورية، فإذا كان وزير الخارجية محمود حمود حمل على نتائج اللجنة, إلا أنه قال أيضاً: إنه لا ينتقد وإنما يوضح مهامها، كما شدد على أنه إذا قرر مجلس الأمن الدولي قيام لجنة تحقيق دولية فعليه تحديد الإطار الذي ستعمل فيه، وبالتنسيق مع الدولة اللبنانية بما شكل استعداداً للتعاون مع قرار يتوقع صدوره من مجلس الأمن بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الاغتيال، وأيضاً على الرغم من أن وزير العدل رأى أن اللجنة خرجت عن حدود المهمة التي أعطيت لها، وشدد على أن الوثيقة الصادرة عنها هي وثيقة أمنية ومخابراتية - وليست قضائية -º إلا أنه أكد أيضاً 'على الترحيب وبمختلف الوسائل والأدوات التي تصل بنا إلى الحقيقة التي هي مطلبنا'، وكذلك فإن وزير الداخلية ورغم تشديده أن الخلل الأمني الحادث في لبنان الآن يندرج في إطار الطرح الذي بدأ يطلّ برأسه من أجل إدخال قوات أجنبية إلى لبنان، إلا أنه فتح الباب للحوار بين السلطة اللبنانية والجهات الدولية حول لجنة التحقيق الدولية القادمةº إذ تساءل عن أعضائها، ومدى حياديتهم, وهل هم من الدول المعنية بالصراع اللبناني.

هنا كان طبيعياً أن يظهر وزير الدفاع اللبناني - الذي وقعت الجريمة خلال وجوده كوزير للدفاع - ليظهر درجة من القوة من جانب، فيقلب الطاولة وبشكل محدد على الولايات المتحدة، باعتبارها مركز دعم المعارضةº إذ إن كل الأمثلة التي استشهد بها على عدم القدرة على توفير الأمن كانت أمثلة على الإخفاق الأمريكي [الوضع في العراق - أحداث 11 سبتمبر - حادث الفتى الذي قتل زملاءه مؤخراً]، ولكي يلقي الكرة كاملة خارج ملعب الحكومة من جانب آخر، وبأن يحمل الأطراف الخارجية مسؤولية ما سيحدث في لبنان بعد الانسحاب السوري, وبأن يتهم واشنطن بوضوح بالتدخل في الشأن الداخلي اللبناني.

 

قطع الطريق على المعارضة:

قبل صدور تقرير اللجنة التي كلفها كوفي أنانº كانت المعارضة اللبنانية قد فقدت معظم الأوراق التي راهنت أو لعبت عليها لتحريك الشارع اللبناني، وتحولت من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع، فباستقالة حكومة كرامي انتهت لعبتها لتحريك الشارع ضد الحكومة والمطالبة بإقالتها, بل بدأت تظهر كرافض لإحداث إجماع وطني, ومصممة على إيجاد فراغ دستوري بعدم تلبيتها مطلب إقامة حكومة وحدة وطنية، كما كانت المعارضة قد فقدت ورقة اللعب على إخراج القوات السوريةº إذ بات انسحاب القوات السورية يجري بأسرع من ملاحقة المعارضة والقرارات الأمريكية والفرنسية لها، ومن ثم لم يعُد بيد المعارضة سوى ورقة إقالة قادة الأجهزة الأمنية - وعددهم 6 أشخاص -، وهو أمر في حد ذاته لا يمكن أن يحرك جموع الشعب اللبناني، وفور صدور التقرير أيقنت الحكومة أن المعارضة ستعود إلى أيديها أوراق [التقرير] للحركة من جديد، فاستهدفت من تحركاتها فور صدور التقرير منع المعارضة من التحول من الدفاع - خاصة ما بعد تظاهرات الموالاة القوية - إلى هجوم بعد صدور التقرير، ولذلك ففي كل الأحاديث والمؤتمرات الصحفية التي عقدها وزراء الحكومة المنصرفة فور صدور التقرير جرى التركيز في قراءة ما جاء فيه على أنه لم يأت مؤكداً على صحة ما جاء في تصريحات المعارضة، حيث شدد المتحدثون على أن التقرير فنّد المقولة التي ألهبت بها المعارضة الشارع - للتدليل على تواطؤ الحكومة وأجهزة الأمن السورية واللبنانية - من أن المتفجرات كانت قد زرعت تحت الأرض، ووسط بركة مياه... إلخ, ما كان يستدل منه أن المجرم كان محمياً، ولديه الوقت الكافي لحفر شارع وإغراقه بالمياه، وتركيب متفجرات... إلخ.

كما ركزت أطراف الحكومة على الجوانب التي تدلل على أن التقرير عبارة عن انحياز سياسي، ورأي سياسي أو أمني وليس قضائي، وكانت هجماتها عبارة عن ضربات استباقية للمعارضة قبل أن تصدر المعارضة تعليقات على التقرير.

غير أن المعارضة لم تستمر في مسيرة الدفاع أو التراجع، كما كان ظهر في الأيام الأخيرة السابقة لظهور التقرير والتي كان أهم شواهدها ما صدر عن وليد جنبلاط من تصريحات باتت أقرب إلى بدء التوافق، وإنما غيرت موقفها بسرعة من الدفاع إلى الهجوم، إذ فتشت في التقرير عن كل ما يجعله نقطة هجوم متجددة، مع التوقف عند حدود النقطة التي وصلت إليها من قبل خلال التراجع، بعدم رفع مطلب إسقاط لحود، أخذت المعارضة من التقرير النقطة الخاصة بالتوصية بتشكيل لجنة تحقيق دولية، وجعلتها الرهان القادم والمحدد لأفق المستقبل، مستغلة موقف الحكومة المتراجع، ومستفيدة من التصريحات الغربية المتواترة عن تأييد فكرة تشكيل اللجنة [أعرب كل الاتحاد الأوروبي حسب تصريحات خافير سولانا، والولايات المتحدة حسب بيان للخارجية الأمريكية، وفرنسا ممثلة في تصريحات المتحدث باسم الخارجية الفرنسية], ومندفعة باتجاه طلب استدعاء مسؤولين أمنيين وآخرين في الحكومة أمام لجنة التحقيق الدولية, بل وصل الأمر أن طالب بعض أطرافها بإجراء محاكمات دولية علنية لهم في لبنان.

اندفعت المعارضة إذن باتجاه مزيد من أضعاف صيغة الدولة الراهنة، فهي إذ نجحت حتى الآن في شل الحكومة بإقالتها، ووقف تشكيل حكومة جديدة، ولم يعد ممثلاً للنظام العام والدولة سوى رئيس الدولة وأجهزة الأمن، فهي باتت تشدد من حملتها على أجهزة الأمن لإتاحة مزيد من المساحة أمام قدرتها على الحركة، خاصة في ضوء تحقيق هدفها في إقصاء القاضي الذي كان تولى التحقيق في عملية الاغتيال.

وهنا كان من الطبيعي أن يظهر وزير الدفاع ليشدد على خطر قادم من خلال فكرة الغزو والإنزال، أو من خلال فكرة الفراغ الأمني في البقاع، لكي يعيد المعارضة إلى المربع الضاغط عليها، باعتبارها مرتبطة بالخارج، وبشكل خاص بالولايات المتحدة، مستثمراً في ذلك وجود ساترفيلد وتحركاته، وعودة بعض أطراف المعارضة اللبنانية للتو من زيارات للولايات المتحدة قبل ظهور التقرير... إلخ.

 

حكاية إنزال القوات؟

قصد مراد الداخل والخارج معاً في تصريحاته، أو هو قصد الربط بين تحركات المعارضة في الداخل ومن يوجهونهم من الخارج ومن فوق الأرض اللبنانية أيضاً - ساترفيلد - الذي اختاره نقطة للهجوم، ذكر مراد اللبنانيين بمحاولتين جرى فيهما إنزال قوات في لبنان:

الأولى: خلال الحرب الأهلية في عام 1958م.

والثانية: خلال الحرب الأهلية السابقة في السبعينيات حينما وصل المارينز، وتم توجيه ضربة لهم أجبرتهم على الانسحاب.

كما حاول أن يظهر أن سبب الاستعجال في سحب القوات السورية إنما يأتي لأن هناك محاولة قادمة لغزو لبنان, ما يستنفر الروح الوطنية اللبنانية، أو هو حاول النسج على نفس الخيوط التي غزلتها المعارضة حول فكرة الاستقلال، وإجلاء الاحتلال وإن باتجاه أمريكا وليس سوريا، كما حاول البناء على ما هو حادث من تفجيرات سبقت إعلان توصيات لجنة الأمم المتحدة وتبعتها، وربما هو بدأ في فضح الخطة العسكرية المحتملة لضرب لبنان وسوريا معاً والتنبيه لها، وهو ما أكده النائب اللبناني ناصر قنديل الذي أشار إلى أن الأوساط اللبنانية تتداول أنباء عن خطة لإنزال نحو 7 آلاف جندي في أحد ضواحي بيروت القديمة.

ورغم أن البعض قد سخر من الاحتمالات التي أشار إليها الوزير اللبناني، ورغم أن المعارضة حاولت صرف الأنظار عن فكرة التدخل العسكري الخارجي في لبنان، إلا أن ثمة مؤشرات كثيرة توحي بأن الأمر جاد وجاد للغاية, بغض النظر عن الطريقة التي ستجري وفقها الأحداث:

 أولها: ما نشر على لسان الرئيس المصري في ذات اليوم عن عدم استبعاد أن يكون هناك طرف ما دبر اغتيال الحريري, ما يشير إلى أن مبارك يستشعر خطراً شديداً على سوريا, ما جعله يدخل بنفسه لنفي التورط السوري في اغتيال الحريري.

وثانيها: ما ذكره محمد حسنين هيكل - ربما بقصد تهيئة الرأي العام لقبول التغيير في سوريا - من أن الأمريكان عينهم على تغيير النظام في سوريا، وهو أمر في الأغلب سيتطلب إكمال الفك الثاني للكماشة حولها [العراق - لبنان]، وحيث لا يمكن ضرب سوريا إلا بداية من حزب الله حتى لا تتحول المعركة باتجاه إسرائيل.

وثالثها: أن مؤشرات لجنة التحقيق تتوجه نحو إطار سياسي لمحاكمة كثير من المسؤولين اللبنانيين، وهو ما لا يمكن حدوثه دون وجود قوات غربية على الأرض، وهو ما يجري التمهيد له سياسياً بأعلى الوتائر من خلال إعلان أطراف دولية عن طلبها تدخل دولي وحماية دولية... إلخ.

ورابعها: التفجيرات التي تجري، والتي ينتظر أن تتصاعد هي وأشكال أخرى مثلها - ربما تجري في الفترة المقبلة عمليات يذهب ضحية لها أعداد كبيرة من المواطنين -، والتي يجب النظر لها من زوايا متعددة داخلية وخارجية، الخارجي منها أنها ستكون التكأة لتدخل أمريكي أو أمريكي - أوروبي مشترك، خاصة وأنها تتركز في مناطق مسيحية بالدرجة الأولى.

وخامسها: أن مراد حينما يقول ذلك - وهو وزير للدفاع - فإن كلامه لا شك سيكون بناءً على معلومات لعل أهم مؤشراتها هو حالة التراجع الحادثة في موقف السلطة اللبنانية، دون استبعاد أنه يخلي مسؤوليته عن احتمالات تطور الأوضاع في البقاع على نحو مختلف عما كان سائداً من قبل.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply