مشروع الشرق الأوسط الكبير أم وجه جديد للاستعمار بشكليه القديم والجديد؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما أن هدأت العواصف التي أثارتها فضيحة انتهاكات أبو غريب حتى عاد الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وخاصة إثر الدعوة التي وجهتها الإدارة الأمريكية لزعماء دول الشرق الأوسط للمشاركة في قمة مجموعة الدول الصناعية الثماني الذي يتوقع أن تنعقد قريباً في شهر حزيران (يونيو).

ورغم عدم استجابة أهم الدول الشرق أوسطية لهذه الدعوة، ورغم الخسارة المعنوية الجسيمة التي منيت بها الولايات المتحدة بسبب مسالك جنودها في كل من العراق وأفغانستان، إلا أن الإدارة الأمريكية تبدو مصرة على طرح المشروع على قمة الثماني الكبار على أمل أن تقتنع هذه الدول بالدخول في شراكة مع الأمريكان لإصلاح أوضاع هذا الشرق الأوسط التي استعصت على الإصلاح حتى الآن.

يعتمد مشروع الشرق الأوسط الجديد في تبرير ذاته اعتماداً شبه تام على تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003، ويتكئ التقرير الأمريكي المقدم حوله إلي قمة الثمانية - والذي سربت مسودته في وقت مبكر - بشكل لا مواربة فيها على ما اعتبره النداءات المقنعة والملحة التي يمثلها تقريرا التنمية البشرية العربية، مدعياً أنها نداءات يرددها نشطاء وأكاديميون وممثلون للقطاع الخاص في أرجاء المنطقة، وهي نداءات يعتبرها بعض نقاد التقريرين صرخات طابور خامس يشكل معاول الهدم المحلية بمباركة وتمويل أمريكيين تحت مسميات الديمقراطية، وحقوق المرأة والأقليات والمجتمع المدني، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.

وفيما لا يمكن اعتباره إلا استهتاراً بالمنطقة ومن فيها يتحدث المشروع الأمريكي عن ضرورة نشر الديمقراطية والحرية ناقلاً عن تقرير لمؤسسة فريدام هاوس الأمريكية في تقريرها للعام 2003 أن إسرائيل هي الدولة الحرة الوحيدة في المنطقة، وذلك دون تحديد لمعاني المفاهيم التي يتساهل المشروع في استخدامها، فماذا تعني الديمقراطية؟ وماذا تعني الحرية؟ إذا كانت إسرائيل هي النموذج، فقد عرفت الإجابة، وانزاح الستار، ليس من معاني الديمقراطية في العرف الأمريكي أن يختار الناس نظام الحكم الذي يريدون، ولا الشريعة التي إليها يحتكمون، بل الديمقراطية في المفهوم الأمريكي تعني أمرين لا ثالث لهما كما ذكرت مجلة الإيكونوميست البريطانية ذات مرة: أن يكون نظام الحكم قائماً على اقتصاد السوق، وألا يشكل تهديداً لأي من مصالح أمريكا، ولاشك أن الأولى تعني أن نتحول كلنا إلي سلع نباع ونشتري في سوق التجارة الأمريكي، وتعني الثانية أن نكون عبيداً مسخرين للحفاظ على أمن السيد الأمريكي القابع في البيت الأبيض، فنتجسس على أبناء ملتنا، ونخون جيراننا، ويبيع الواحد منا أخاه بثمن بخس، وتجوب أراضينا وأجواءنا ومياهنا الإقليمية القطع العسكرية الأمريكية بحرية متناهية، وكل من تعرض لها ممن تأخذه الحمية من أبنائنا لاحقناه وعاقبناه بل ومزقناه شر ممزق.

هل نحن إزاء استعمار من نوع جديد؟ لا، بل نحن إزاء الاستعمار القديم نفسه بعد أن فقدت أدوات الاستعمار الجديد فعاليتها في السيطرة على الأوضاع، وما غزو أفغانستان والعراق، والتلويح بغزو غيرهما إن دعت الضرورة إلا تأكيد على أن الإدارة الحالية في واشنطن لم تعد مقتنعة أو مكتفية بأدوات الاستعمار الجديد.

من الجدير بالذكر أن الاستعمار الجديد مصطلح يصف حالة من النفوذ تمارسه دولة على دولة أخري أضعف وأقل شأناً منها، ويكون هذا النفوذ متجلياً في مجالات أو قطاعات معينة، وتستخدم في سبيل بسطه وسائل شتى قد تكون اقتصادية أو لغوية أو ثقافية أو سياسية، أو مزيج منها، بدلاً من وسائل السيطرة التقليدية من احتلال عسكري وتبعية سياسية مباشرة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار كثير من الدول - وخاصة في القارة الأفريقية - التي تستخدم الإنجليزية أو الفرنسية لغة رسمية بدلاً من لغتها المحلية خاضعة لهذا النوع من الاستعمار، كما يمكن أيضاً اعتبار النفوذ الاقتصادي الذي تمارسه الشركات والمؤسسات متعددة الجنسيات في كثير من دول ما يعرف بالعالم الثالث نوعاً من الاستعمار الجديد.

وفيما عدا حالات قليلة ونادرة يمكن اعتبار كثير من المستعمرات السابقة في كل من آسيا وأفريقيا نقاط نفوذ لهذه الإمبريالية المقنعة، حيث تظل هذه الدول الممنوحة الاستقلال رسمياً تحت رحمة القوة الإمبريالية التي كانت تستعمرها، أو تحت سلطان قوة إمبريالية أخرى (حيث ورثت الولايات المتحدة النفوذ في كثير من بقاع الأرض من الإمبراطوريات المتراجعة بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية) والتي تحتفظ باليد الطولي في تصريف أمور الاقتصاد، وكثير من أمور السياسية.

ينسب هذا المصطلح إلي أول رئيس لجمهورية غانا بعد الاستقلال كوامي نكرومه الذي كان أول صائغ ومستخدم له بعد أن أدرك سريعاً إثر استلامه لمقاليد الأمور في بلاده بأن السيادة الوطنية التي منحتها (بضم الميم) الدول الأفريقية من قبل القوي الاستعمارية الجالية عنها لم تكن أكثر من حبر على ورق، أو لنقل هدية رمزية لا أكثر، حيث لم يطرأ تغير معتبر على العلاقة بين المستعمر (بكسر الميم) والمستعمر (بفتحها)، بل وجد نكرومه أن منح الاستقلال أوجد الفرصة لقيام نظام (مانيكيان) من التبعية والاستغلال حتى قال: الاستعمار الجديد هو أسوأ أشكال الإمبريالية، فهو بالنسبة للذين يمارسونه سلطة بلا مسؤولية، وهو بالنسبة للذين يعانون منه استغلال دون إمكانية التظلم، ففي أيام الاستعمار التقليدي كانت القوة الإمبريالية مضطرة لتفسير وتبرير ما تقوم به وتنهجه من سياسات في بلاد الآخرين أمام الشعب في بلادها، وكان سكان المستعمرات الخاضعون لنفوذ الأجنبي المسخرون لخدمته يتطلعون على الأقل إلى حمايته مما قد يتعرضون له على أيدي خصومهمº أما في حالة الاستعمار الجديد فلا هذا ولا ذاك متوفر.

ومع أن الحالة الأفريقية هي الأبرز في كتابات وتحليلات ذوي الخبرة والاختصاص في هذا المجالº إلا أن أقطار العالم الإسلامي - الموزعة على القارتين الآسيوية والأفريقية - تظل هي النموذج الأخطر والأهم، وذلك لما خصت به المنطقة الإسلامية - والعربية منها بشكل خاص - من موارد نفطية، ومواقع استراتيجية، ولعل أحداث العقد الأخير تسلط الضوء على حقيقة أن ما من قطر من أقطار المسلمين إلا وكان خاضعاً على الدوام خلال ما يزيد عن قرن من الزمان لأحد النوعين من الاستعمار، سواء الشكل التقليدي المباشر، أو الشكل الجديد غير المباشر، حتى إذا ما حاول أي نظام التمرد أو الخروج عن قواعد اللعبة المرسومة سرعان ما استبدل غير المباشر بالمباشر، وعاد القديم ليحل محل الجديد، كما هو الحال اليوم في كل من أفغانستان والعراق.

ولعل من خصوصيات المنطقة الإسلامية أيضاً وقلبها العربي أنها في الوقت الذي ودعت فيه قوات المستعمرين - وخاصة البريطانيين والفرنسيين - شهدت زرع كيان غريب في قلبها ليشكل رأس حربة استعمارية بما يمثله من قاعدة عسكرية لا قبل لمن حولها بها، وترسانة سلاحية لا مثيل لها، وبما يمثله من حل لأزمة أوروبية مستفحلة، وأقصد هنا الكيان الصهوني الذي أراد البريطانيون والفرنسيون من إقامته إدامة الضعف والشلل والتمزق في الأراضي التي توزعوها فيما بينهم من تركة العثمانيين، وفي نفس الوقت حل المشكلة اليهودية التي ظلت تؤرقهم قروناً طويلة ولم يجدوا لها حلاً أفضل من ترحيل اليهود عنهم، وتحويلهم - كما يقول الأستاذ عبد الوهاب المسيري - إلى جماعة وظيفية تقوم نيابة عنهم بتركيع العرب والمسلمين إلى أجل غير مسمي، وما أن ورث العم سام تلك الديار حتى ورث أبوة المشروع الصهيوني فصار هذا الكيان بوصفهم حليفاً استراتيجياً لا يجوز مجرد التفكير بسوء تجاهه.

يمكن للمتأمل أن يرى في الحالة العربية والإسلامية من الشذوذ عن الحالة الأفريقية ما يثير الانتباه، إذ أن كثيراً من الدول الإسلامية - ورغم رحيل المستعمر عنها - ظلت أراضيها مرتعاً للقوات الأجنبية - وفي هذه الحالة للوريث الأمريكي بعد أن أفل النجمان البريطاني والفرنسي - فيما يصعب تصنيفه من العلاقات، فما فتئ الأمريكان يحتفظون بقواعد في كثير من دول العالم العربي والإسلامي، وتنتشر في بقاعه محطات التجسس البشرية والإلكترونية، ويرتع السادة الأمريكان في روابيه وفيافيه كما يشاءون. والغريب في الأمر أن التواجد الأمريكي في الأقطار الأخرى خارج المنظومة العربية والإسلامية - وخاصة في اليابان وأوروبا الغربية وحتى الشرقية اليوم بعد انهيار المنظومة الاشتراكية - لم يحل وجودهم فيها دون تقدمها وتفوقها في كافة الميادين، بل كان التواجد العسكري الأمريكي أقرب إلى الوفاق والشراكة منه إلى فرض النفوذ والتسخير، وكأن الحالة العربية والإسلامية جمعت أسوأ ما في الاستعمارين القديم والجديد، ولعل من المفيد أن تدخل عالم المصطلحات مفردة جديدة لتعبر عن هذه الخصوصية، والتي لا تكاد ترى في غير بلدانناº مفردة بإمكانها أن تعبر عن وجود حالة من الاستعمار بكافة أشكاله المباشر وغير المباشر، ولكنه استعمار يصاحبه تخلف وفساد، واستبداد يروق للمستعمر وللنخب الحاكمة الراضخة له على حد سواء.

ولعل السر في هذه الخصوصية يكمن في مواصفات الدولة الحديثة التي قامت في المنطقة العربية بشكل خاص ـ والإسلامية بشكل أعم ـ على أنقاض الإمبراطوريات الإسلامية الكبيرة العثمانية والقاجارية والموغالية، فهذه الدول - أو الدويلات - الحديثة لم تتكون وليدة عوامل محلية فسحب، بل كان الغزو الاستعماري ثم الاحتلال الأجنبي هو المصمم لها، والراسم لحدودها، والمحدد لمواردها وإمكانياتها، بل والمقيد لصلاحياتها.

ما من شك في أن عقوداً بل ربما قروناً من التخلف الناجم عن التخلي عما عزت به الأمة الإسلامية فيما سبق من عصور الازدهار والتفوق هو الذي مكن لأوروبا من أن تحط بشطآن المسلمين، وتحيل أوطانهم إلي مستباحات للنهب، ومجاميع بشرية للسخرة، ولعل هذا ما قصده المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي بعبارة القابلية للاستعمار، فلولا تلك القابلية التي تجلت في حالة عامة من التخلف والجهل والقعود عن العمل بل واللامبالاة لما غدت أوطان المسلمين فريسة سهلة للمستعمرين، ونظراً لأن هذه القابلية للاستعمار إنما هي حالة عابرة، ولما كان المجتمع المسلم يحتفظ بالقدرة الكامنة على النهوض والثورة والتغييرº فقد كان الاستعمار لبلاد المسلمين استعماراً شرساً أتى - أو حاول أن يأتي - على البني التحتية للمجتمع، وقصد عن سبق إصرار وترصد ضرب منابع الإحياء، ومصادر الإلهام حتى لا يفيق النائم، ويستيقظ الغافل، وذلك نظراً لأن الهجمة الاستعمارية تصادفت مع محاولات محلية للإصلاح والتجديد استمرت طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

وجد المستعمر أن لا بد من إعادة صياغة الثقافة حتى يصبح المجتمع طيعاً مطراقاً، فمنذ أن وطأت أقدام المستعمرين أراضي العرب والمسلمين لم يقف لهم بالمرصاد يقاومهم بثقة ويقين ورغبة في النصر أو الاستشهاد إلا علماء الأمة، الذين استفادوا من نفوذهم المعنوي في المجتمع، ومن مؤسسات الوقف التي ظلت لقرون طويلة مستقلة عن السلطان، مسخرة للنفع العام، فأصبحوا وأصبحت الأوقاف هدفاً أول لسلطات الحكم الأجنبي، ثم ما لبثت هذه السياسة القمعية أن استؤنفت من قبل الذين ورثوا الاستعمار في أنظمة ما بعد الاستقلال، تلك النخب التي استبدلت الإسلام بالعلمانية، واستمرت على نهج المستعمر ظلماً وعسفاً، وما فتئت تبطش بكل منتقد لها أو منكر لما جلبته من منكرات أو آمر إياها بمعروف، ولما كانت النخب الحاكمة ضعيفة معزولة ومكروهة من قبل الناسº فإنها تظل بحاجة ماسة إلى الحماية من قبل قوة خارجية، تتفاني في تقديم القرابين لها مقابل ألا يزعزع نظامها أحد، ولا يهدد أمنها أحد.

ولعل فيما ارتكبه نظام معمر القذافي الجاثم على صدور أهل ليبيا منذ أكثر من ثلاثة عقود أخيراً خير مثال على هذا النمط من النخب الحاكمة التي لم تترك وسيلة تنكيل بالناس إلا مارستها مبررة ذلك تارة بالحفاظ على مكتسبات الثورة، وتارة أخرى بضرورة مكافحة الزندقة، وتارة ثالثة باستئصال شأفة العملاء والخونة، وفي آخر المطاف ما أن تشعر بأن وجودها مهدد حتى تسلم البلاد والعباد للاستعمار، لا في شكله الجديد غير المباشر، بل في شكله القديم المباشر.

إن عودة الاستعمار المباشر إن دلت على شيء فإنما تدل على عدم قناعة المستعمر (المتمثل بالولايات المتحدة بشكل رئيسي) بجدوى الاستمرار في الاعتماد على النخب الحاكمة الموالية له، وللمرء أن يتأمل في مصير نظام صدام حسين الذين شنت الحرب على العراق للإطاحة به رغم أنه كان منذ يومه الأول صنيعة الولايات المتحدة وحلفائها، مدعوماً من قبلهم، بل ومسلحاً بكافة التقنيات الحربية التي مكنته من شن حرب على إيران نيابة عن الولايات المتحدة عقاباً للشعب الإيراني على ثورته على واحد من أهم الدركيين في المنظومة الإقليمية التي تدين بالولاء للعم سام، فلقد كانت الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه صفعة مهينة ومؤلمة ومكلفة للولايات المتحدة وحلفائها.

لولا انهيار الثقة بمنظومة الدركيين والموالين لما اختار الأمريكان الغزو والاحتلال المباشر نظراً لأن تكلفة هذا النوع من الاستعمار أكبر بكثير بل وتحف به المخاطر، إنها مجازفة كبيرة، ونتائجها غير مضمونة، ولكنها بدت في نظر تيار المحافظين الجدد، المتنفذين في دوائر صنع القرار اليوم في واشنطن أهون الشرين، وأخف الضررين، ولعل حساباتهم فيما قامت عليه اشتملت على تخوف من أن تنهار المنظومة القائمة شيئاً فشيئاً تحت وطأة الضغط الشعبي - وخاصة الإسلامي - الذي فرض في أكثر من موقع في العالم الإسلامي على النخب الحاكمة أن تكيف خطابها وبعض سياساتها لتتجاوب مع الرغبات الشعبية العارمة.

ويمكن مرة أخري اللجوء إلي النموذج العراقي تدليلاً على هذه النظرية، إذ أن نظام الحكم البعثي - والذي طالما حارب بشراسة كل مظاهر التدين فارضاً العلمنة على المجتمع بالقوة - كان أحد الأنظمة التي اتجهت في السنوات الأخيرة نحو محاكاة الشارع الإسلامي، فكان له في نهاية المطاف بعض دور مؤثر في تعزيز وانتشار ظاهرة التدين حتى في أوساط الحزب الحاكم، والأجهزة العسكرية والأمنية التابعة له، وما من شك في أن مظاهر التدين في العالم العربي والإسلامي لم تقتصر على عامة الناس بل وصلت إلى النخب، وانتشرت حتى في أوساط المقربين من دوائر صنع القرار، الأمر الذي دق نواقيس الخطر، فسارع بعض حراس المنظومة الأمريكية إلى استثمار الأموال الطائلة في برامج إفساد إعلامية وثقافية، فهم أمام الملأ حراس للدين مدافعون عن قيمه ومقدساته، ولكنهم أيضاً ممولون لأفسد محطات التلفزة الفضائية والصحف والمجلات الوضيعة التي ما من غرض لها سوى مناهضة التدين عبر إفساد الناشئة، وإشغالهم بالتوافه والسفاسف.

بعد أكثر من عام على الغزو الأمريكي للعراق لا يبدو أن الاستعمار القديم المتجدد أقدر من سابقه على إنجاز أهدافه، بل ثمة خيبة أمل شديدة حتى الآن مرجعها تصاعد المقاومة العراقية ضد الغزو الأمريكي، وعجز إدارة الاحتلال عن تحقيق ما منت العراقيين به من حرية وأمن ورخاء وديمقراطية، بل على العكس من كل ذلك أثبت المحتلون أنهم لا يقلون انتهاكاً لحقوق الإنسان وجرأة على الكرامة الإنسانية من الطواغيت المحليين، ولولا أن الأوضاع في العراق على غير ما يشتهي الأمريكان لربما استمرت عجلة الغزو في الدوران، ولربما توسع الاحتلال جغرافياً ليشمل دولاً مجاورة كانت على القائمة - وربما ما تزال - تنتظر دورها، ومع أن إيران وسوريا هما المقصودتان بشكل مباشر إلا أن المملكة العربية السعودية لم تعد في مأمن هي الأخرى، ويستدل على ذلك بالحملات العدائية المستمرة ضدها في الإعلام الأمريكي وفي ردهات الكونغرس وغيره من مؤسسات النفوذ وصناعة القرار في واشنطن، وليس من المبالغة القول بأن زعماء هذه الدول الثلاث مدينون للمقاومة العراقية - وللأفغانية كذلك - بسبب عرقلتها للمشروع الأمريكي الاحتلالي الكبير.

من المثير للاهتمام وجود شعور متنام بأن مواجهة الاستعمار المباشر (أي في صيغته القديمة - المتجددة) أسهل على الناس في الدول المحتلة من مواجهة الاستعمار غير المباشر الذي تمثله الأنظمة الحاكمة في معظم الدول العربية والإسلامية بغض النظر عن وصفها جمهورية أم ملكية أم جماهيرية، وسواء وصل حكامها إلى السلطة عبر الانقلاب، أو من خلال التوريث، فهذه هي المناطق التي ترزح تحت الاحتلال الأجنبي المباشر تشهد مقاومة مسلحة متصاعدة، سواء في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في العراق، بينما لا يكاد يجدي نفعاً كل ما يقوم به المعارضون لأنظمة الحكم الممثلة للاستعمار غير المباشر في المناطق الأخرى، سواء شارك هؤلاء المعارضون فيما هو مباح من الفعل السياسي، أو مارسوا العنف يأساً وإحباطاً.

يضاف إلى ذلك أن عودة الاستعمار المباشر حققت للبعض أمنية طال انتظارها ألا وهي فتح باب للجهاد كان مغلقاً، ولم يتيسر فيما مضي إلا في حالات قليلة كما حدث أيام الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي، ثم بدرجة أقل وأصعب بكثير في البوسنة والشيشان، أما فلسطين التي يتمني ملايين المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله تحريراً لها من الاستعمار الصهيوني فليست متاحة بفضل حماية النظام الإقليمي (العربي بالدرجة الأولي) للكيان الصهيوني من كل مكان.

منذ أن احتل الأمريكان أفغانستان ثم العراق أوجدوا لآلاف المتعطشين للجهاد والاستشهاد واحداً من أوسع الأبواب، وها هي الساحة العراقية تشتعل لهيباً حارقاً من تحت أقدام الغزاة الأمريكان وحلفائهم، فيما يشبه الاستفتاء الشعبي العام - سني وشيعي - على أن بضاعة أمريكا التي أريد للعراق أن يشكل نموذجاً أولاً في تقبلها ومن ثم ترويجها غير مرغوب فيها، وليس ذلك من باب إنكار الجميل أو عدم التقديرº وإنما من باب فهم عميق لما تحمله الدبابة الأمريكية لهذا الشعب وللأمة العربية والإسلامية من ورائه، إنها لا تحمل خيراً على الإطلاق.

يبدو بأن السحر قد بطل في أعين العراقيين كما بطل من قبل في أعين الأفغان، وانكشفت حقيقة الشرق الأوسط الجديد والكبير الذي تريده أمريكا لسكان هذه المنطقة، فثار أهل العراق انطلاقاً من الفلوجة والنجف، وصرخوا صرخة دوت في أقطار المعمورة: اغربوا عن وجوهنا أيها الأوغاد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply