بسم الله الرحمن الرحيم
ظل المسيحيون إلى عهد قريب يؤمنون بأن اليهود هم من يتحمل المسؤولية الأولى والأخيرة عن مقتل المسيح - عليه السلام - صَلبًا، وصرح الإنجيل أن من أسباب ذلك ادعاء المسيح أنه ابن الله (- تعالى - الله عن ذلك).
ولست بحاجة إلى القول للقارئ المسلم أن كلا من المقدمة والنتيجة باطلتان: فلا المسيح ادعى أنه ابن الله، ولا اليهود قتلوا المسيح أو صلبوه. لكن ما يهمنا هنا ليس صحة الفكرة وإنما وظيفتها التاريخية، وتطورها في الزمان. لذلك سنكتفي بنظرة وصفية إلى الطريقة التي قدم بها الإنجيل القصة، وخصوصا دور اليهود فيها. ولاعتبار التسلسل الزمني نؤجل الحديث عن فهم المسيحية الصهيونية لهذه القصة إلى حلقات آتية بإذن الله.
يبدو المسيح - عليه السلام - – من خلال الإنجيل – متطلعا إلى أن يكون اليهود أول من يؤمن به، وذلك لسببين:
أولهما: البشارات التي جاء بها موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل بشأنه، وقد خاطب المسيح اليهود بهذا المنطق، فقال:\"أنتم تدرسون الكتب لأنكم تعتقدون أنها ستهديكم إلى الحياة الأبدية. هذه الكتب تشهد لي، ولكنكم ترفضون أن تأتوا إليَّ لتكون لكم الحياة\"(يوحنا 5/39-40)\"لو كنتم صدَّقتم موسى، لكنتم صدَّقتموني، لأنه هو كتب عني\"(يوحنا 5/46).
وثانيهما: أن اليهود هم قوم المسيح وأقرب الناس إليه دما ودارا، وهم أول من حمـَّله الله إيصال الرسالة إليهم. لذلك عبر يوحنا في إنجيله بمرارة عن رفض اليهود للمسيح - عليه السلام -، وهم أولى الناس بقبوله، فقال:\"وقد جاء [المسيح] إلى مَن كانوا خاصَّته، ولكن هؤلاء لم يقبلوه\"(يوحنا 1/11).
لكن اليهود تمسكوا بأنهم أتباع موسى لا عيسى، وشككوا في نبوة عيسى، فقالوا:\"أما نحن فتلاميذ موسى، نحن نعلم أن موسى كلمه الله، أما هذا [المسيح] فلا نعلم له أصلا\"(يوحنا 9/28-29).
ولم يتوقف اليهود عند حد رفض الإيمان بالمسيح بل تجاوزوا ذلك – طبقا للإنجيل - إلى السعي للتخلص منه. وتبدو المؤامرة اليهودية ضد المسيح – من خلال صفحات الإنجيل – عميقة الجذور محبوكة الأطراف. وقد تجلت مظاهرها أولا في إهانته ومضايقته، مرورا بمطاردته واعتقاله، ثم أخيرا بصلبه وقتله. وفيما يلي أمثلة من النصوص الإنجيلية الواردة في هذا الشأن:
أولا: الإهانة والمضايقة.
\"فأخذ اليهود يضايقون يسوع، لأنه كان يعمل هذه الأعمال [معجزات شفاء المرضى] يوم السبت\"(يوحنا 5/16)
\"إن اليهود اتفقوا على أن يطردوا من المجمع كل من يعترف أن يسوع هو المسيح\"(يوحنا 9/22)
\"فقال اليهود [للمسيح]: ألسنا نقول الحق عندما نقول إنك سامريٌ وإن فيك شيطانا؟\"(يوحنا 8/ 48.
\"الآن تأكد لنا أن فيك شيطانا\"(يوحنا 8/52)\"إن شيطانا يسكنه، وهو يهذي..\"(يوحنا 10/20)
\"فبدأ بعضهم يبصقون عليه، ويغطون وجهه ويلطمونه\"(مرقس 14/65)\"فبصقوا في وجهه، وضربوه، ولطمه بعضهم\"(متى 26/67)
فلما قال يسوع هذا، لطمه أحد الحراس وقال: أهكذا تجيب رئيس الكهنة؟\"(يوحنا 18/22)
\"فرفعوا حجارة ليرجموه ولكنه أخفى نفسه، وخرج من الهيكل\"(يوحنا 8/59)\"فرفع اليهود مرة ثانية حجارة ليرجموه\"(يوحنا 10/31)
\"وقاموا يدفعونه إلى خارج المدينة، وساقوه إلى حافة الجبل الذي بنيت عليه مدينتهم ليطرحوه إلى الأسفل. إلا أنه اجتاز من وسطهم وانصرف\"(لوقا 4/29)
\"فقال التلاميذ: يا معلِّم، أترجع إلى [منطقة] اليهودية، ومنذ وقت قريب أراد اليهود أن يرجموك\"(يوحنا 11/8)
\"لم يجرؤ أحد أن يتكلم عنه علنا خوفا من اليهود\"(يوحنا 7/13)
\"كان يوسف هذا تلميذا ليسوع، ولكن في السر، لأنه كان خائفا من اليهود\"(يوحنا 19/38)
\"كان التلاميذ مجتمعين في بيت أغلقوا أبوابه، خوفا من اليهود\"(يوحنا 20/19)
ثانيا: المطاردة والاعتقال.
\"وبعدما ذهب إخوته إلى العيد، ذهب هو أيضا كما لو كان متخفيا، لا ظاهرا. فأخذ اليهود يبحثون عنه في العيد، ويسألون: أين ذلك الرجل؟\"(يوحنا 7/10-11)
\"منذ ذلك اليوم قرر اليهود أن يقتلوا يسوع، فلم يعد يتجول بينهم جهارا\"(يوحنا 11/53)
\"بعد ذلك بدأ يسوع يتنقل في منطقة الجليل، متجنبا التجول في منطقة اليهودية، لأن اليهود كانوا يسعون إلى قتله\"(يوحنا 7/1)\"فسعى اليهود للقبض عليه\"(يوحنا 7/30)
\"ازداد سعي اليهود إلى قتله، ليس فقط لأنه خالف سنة السبت، بل لأنه قال إن الله أبوه، مساويا نفسه بالله\"(يوحنا 5/17)
\"أنا أعلم أنكم أحفاد إبراهيم، ولكنكم تسعون إلى قتلي، لأن كلمتي لا تجد لها مكانا في قلوبكم\"(يوحنا 8/37)
\"وسمع الفريسيون [اليهود] ما يتهامس به الجمع فأرسلوا هم ورؤساء الكهنة بعض الحراس ليلقوا القبض عليه\"(يوحنا 7/32)
\"فأرادوا ثانية أن يلقوا القبض عليه\"(يوحنا 10/39) و\"أراد بعضهم أن يلقوا القبض عليه\"(يوحنا 7/44)
\"فقبضت الفرقة والقائد وحرس الهيكل على يسوع وقيدوه\"(يوحنا 18/12)
ثالثا: الصلب والقتل.
وقد وردت قصة صلب المسيح وقتله – طبقا للمعتقدات المسيحية – في الأناجيل الأربعة، بسياقات متقاربة، تصرح كلها بدور اليهود في التآمر والتحريض ابتداء وانتهاء، مع خلاف بين الأناجيل الأربعة في تضخيم دور اليهود أو تحجيمه. وخلاصة القصة أن اليهود سعوا لدى الحاكم الروماني\"بيلاطس\"أن يقتل المسيح جزاء على ما اعتبروه كفرا منه، وادعاء منه أنه ابن الرب، وتطاولا منه على رؤساء الكهنة اليهود.. وتردد الحاكم كثيرا، ولكن كهنة اليهود كانوا مصرين على مرامهم. وتم اعتقال المسيح بعد طول مطاردة ومضايقة، بتدخل مباشر من الكهنة، وكان الذي تولى الهجوم عليه في مخبئه هو\"فرقة الجنود وحرس الهيكل الذين أرسلهم رؤساء الكهنة والفريسيون [اليهود] وهم يحملون المصابيح والمشاعل والسلاح\"(يوحنا 18/3)
ورغم أن الذي يحكم القدس أيام المسيح هم الرومان – لا اليهود – فإن لليهود يومذاك نفوذا سياسيا ودينيا معتبَرا يمارسونه من خلال مجامع كهنتهم. ويبدو أن الحاكم الروماني\"بيلاطس\"– وهو وثني لا يفقه كثيرا في الدين - نظر إلى الخلاف بين المسيح واليهود على أساس أنه خلاف داخلي بين اليهود وأحد أتباع ديانتهم يريد الخروج على المألوف من دينهم، ولذلك ترك الحاكم مصير المسيح في يد السلطة الدينية اليهودية.
ويسعى كُتَّاب الإنجيل إلى التأكيد على مسؤولية اليهود وتبرئة الرومان. حيث ورد في الإنجيل تعبير الحاكم الروماني عن اقتناعه ببراءة المسيح، وأن رجال الدين اليهود هم الذين دفعوه إلى اتخاذ قرار الصلب بعد أن حاول التملص منهم بكل حيلة. ومن الفقرت التي تسرد هذا المشهد فقرةٌ في إنجيل متَّى أثارت الحقد في قلوب المسيحيين ضد اليهود في كل عصر، وقد ورد فيها:\"فعاد [بيلاطس] يسأل: فماذا أفعل بيسوع الذي يُدعى المسيح؟ أجابوا جميعا: ليُصلَب. فسأل الحاكم: وأي شر فعل؟ فازدادوا صراخا: ليُصلَب. فلما رأى بيلاطس أنه لا فائدة، وأن فتنة تكاد تنشب بالأحرى، أخذ ماء وغسل يديه أمام الجمع، وقال: أنا بريء من دم هذا البارِّ، فانظروا أنتم في الأمر. فأجاب الشعب بأجمعه: ليكن دمه علينا وعلى أولادنا. فأطلق لهم\"باراباس\"[وهو لص كان في نفس السجن] وأما يسوع فجلده، ثم سلمه إلى الصلب\"(متى 27/22-26).
وقد بقيت هذه العبارة\"ليكن دمه علينا وعلى أولادنا\"مغروسة في العقل المسيحي على مر القرون، واعتبرها المسيحيون شهادة دامغة على أن اليهود في كل عصر ومصر يحملون في أعناقهم دم المسيح، وأن لعنة الرب قد حلت عليهم بسبب ذلك إلى الأبد، وأنهم بذلك قد استحقوا كل أنواع التنكيل والاضطهاد. كما ظلت صورة المسيح وهو مقيد، يبصق الناس في وجهه ويضربونه، صورة لا تـمَّحي من الضمير المسيحي، وهي – في اعتقادهم - إدانة أخرى لليهود عليهم أن يدفعوا ثمنها..
ومن غرائب ما ترتب على هذا الاعتقاد ما حكاه\"جون دومينيك كروسان\"في مقدمة كتابه:\"من قتل المسيح؟\"Who Killed Jesus? من أن المسيحيين الأوربيين كانوا يعقدون اجتماعات ومراسيم فيما يعتبرونه ذكرى صلب المسيح، خلال القرن التاسع والعاشر والحادي عشر الميلادي. وأن سكان مدينة\"تولوز\"الفرنسية كان لديهم تقليد خاص بهم في هذه المناسبة، يعتبرونه جزءا مهمًّا من مراسيم تلك الذكرى، وهو إحضار يهودي إلى الكنيسة أثناء الاجتماع، ليصفعه أحد النبلاء أمام الجمع، إحياء لذكرى الضرب والإهانات التي تعرض لها المسيح على أيدي اليهود..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد