الشيخ عبد الحميد كشـك .. 1933 ـ 1996م


  

بسم الله الرحمن الرحيم

 لا شك أن الشيخ عبد الحميد كشك يمثل ظاهرة هامة على أكثر من مستوى، وهو نموذج فذ لعالم الدين المرتبط بقضايا أمته والقادر على التعاطي الواسع والمؤثر مع أوسع الجماهير، بل ابسطها أيضًا، فالشيخ عبد الحميد كشك أستطاع أن يوصل صوته إلى الملايين وربما عشرات الملايين،، وهو قادر على تحريك هذه الملايين وقادر على مخاطبتها بلغة سهلة وبسيطة ومفهومة ومؤثرة، وعاطفية وعقلية في نفس الوقت، أنه شيخ جماهيرى بكل معني الكلمة، والأخطر في المسألة أن جماهيره كانت من الفلاحين الفقراء والعمال الكادحين، وأصحاب الحرف وفي نفس الوقت من الموظفين والمهنيين وسكان المدن، بل وكبار المثقفين أحيانًا.

 

وإلي جانب هذا فهو رجل دين لم يركع لحاكم قط، ولا راعي مصالحه الشخصية، ولا خاف يومًا في الله لومة لائم، وهو منذ بدء حياته وحتى مماته تعرض لمحطات كثيرة من الاضطهاد بدءًا من السجن مرتين وانتهاء بمنعه من الخطابة على منبره في مسجد عين الحياة بحدائق القبة بالقاهرة حتى يوم موته!.

 

والطريف أيضًا أن الشيخ عبد الحميد كشك أمتلك لغة ساخرة ومثيرة للابتسام وفي نفس الوقت شديدة القسوة على ما يراه فسادًا أو استبداد.

 

ولا شك أن مدرسة الشيخ كشـك في العمل الدعوى والجماهيرى تستحق الدراسة، باعتباره رمزًا كبيرًا أولاً، وباعتبار قدرته الفذة على الوصول إلى أوسع الجماهير الشعبية مهما كانت درجة ثقافتها، بل وقدرته على اقناع وحشد الملايين وتعبئتهم من اجل قضايا الإسلام.

 

كما لا شك أن الشيخ عبد الحميد كشك قد قدم للإسلام والمسلمين خدمات ضخمة من خلال خطبه وأحاديثه ودروسه وكتبه، حيث انه تمتع بموهبة خطابية نادرة، كما كان شيخا مناضلا ومجاهدا وشريفا.

 

وليس غريبًا أن تجدا أشرطة الشيخ عبد الحميد كشك تذاع ليل نهار في حواري المدن والقري وفي الأزقة والنجوع، وفي المناطق الأرستقراطية على حد سواء، بل وأن تسمعه من ميكروفونات معلقة فوق المساجد، او من محلات العصير أو الكباب، أو حتى من المسجلات على عربات الباعة الجائلين او سيارات نقل الركاب، وان تجده في كل مكان في مصر، وأيضًا يمكن أن تجده في أمريكا وأوروبا وآسيا، وكذلك في المغرب والجزائر أو الأردن وسوريا والعراق أو داخل الأرض المحتلة وهكذا، حتى لقد أطلق عليه البعض ظاهرة \" كشك فون \"، ليس هذا فحسب، بل إن شخصًا ما مصريًا او عربيًا أو أجنبيًا لو جاء إلى مكان في القاهرة وسأل عن عنوان الشيخ عبد الحميد كشك لوجد على الفور من يعرف هذا العنوان، ويدله عليه، ولو انك أرسلت خطابًا مثلاً على المظروف كلمات الشيخ عبد الحميد كشك ـ القاهرة، لوصل الخطاب إليه بلا أي معاناة، ولهذا الأمر دلالته على كل مستوى.

 

ولد الشيخ عبد الحميد كشك عام 1933 م في قرية شبراخيت بمحافظة البحيرة، في مصر، أصيب بالرمد الحبيبي في طفولته وفقد بصره تمامًا في سن الثانية عشرة، حفظ الشيخ عبد الحميد كشك القرآن الكريم مبكرًا، ثم التحق بالمعهد الابتدائي الأزهري بمدينة الإسكندرية، ثم التحق بالمدرسة الثانوية الأزهرية، ثم بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وحصل على الليسانس في أصول الدين وعين في وظيفة إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية، وأخذ يتنقل من مسجد إلى مسجد حتى أستقر بمسجد عين الحياة بحدائق القبة بالقاهرة 1964م، واستطاع بفضل أسلوبه المتميز في الخطابة وبفضل شجاعته في نقد المسئولين والتصدي للفساد والاستبداد، أن يشكل المعارضة العلنية الوحيدة في مصر في تلك الفترة، مما جعل الجماهير تتوافد على مسجده بكثرة، وقد أزعج هذا السلطات المصرية وقتها فاعتقلته سنة 1966 م بتهمة الإثارة! وظل معتقلاً حتى عام 1968، ثم تم الإفراج عنه، إلا أنه لم يعد إلى منبره إلا في عام 1972، وتصاعدت شهرة الشيخ عبد الحميد كشك بدءًا من هذا العام وطوال السبعينات، فتصدي للكثير من قضايا الفساد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بأسلوب متميز ساخر وقوى، وكان يخطب الجمعة مركزا على القضايا العامة كما يقوم بإلقاء الدروس في مساء كل يوم تقريبًا في المسجد، وكانت مئات الألوف من البشر تتوافد على مسجده لسماعه، ورغم توسيع المسجد عدة مرات في السبعينات ليسع هذه الأعداد المتزايدة، إلا أنه لم يسعها بالطبع رغم التوسعات فكانت تلك المنطقة كلها تتحول إلى مسجد، مما يعطل حركة المواصلات تمامًا في كل يوم جمعة، ليس هذا فحسب، بل ألاف المسجلات كانت تلتقط خطبة الشيخ عبد الحميد كشك، لتعيد إذاعتها في كل مكان من العالم، وكان البريد يحمل الأشرطة إلى المصريين المغتربين، لأن تلك الأشرطة كانت طلبًا ثابتًا في خطاباتهم لذويهم، ليحملها المسافرون معهم إلى خارج مصر حتى أصبحت جزءًا تقليديًا في حقيبة كل مسافر.

 

وقد نجح الشيخ عبد الحميد كشك منذ عام 1972 وحتى عام 1981 في تحقق نوع منتشر وفعال من التثقيف الديني النضالي والانتقادي مما أسهم في زيادة رصيد الصحوة الإسلامية في ذلك الوقت وتوصيلها إلى أعمق الطبقات الشعبية وأوسعها، بل وأصبح هناك عدد كبير من الخطباء الذين ساروا على منهج الشيخ عبد الحميد كشك في الخطابة شكلاً وموضوعًا، فتصدي الكثيرون منهم لقضايا الفساد والاستبداد والاهتمام بقضايا العالم الإسلامي عمومًا مثل القضية الفلسطينية وغيرها، وقد نبغ من هؤلاء الشيخ أحمد المحلاوي الذي شكل في مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية صورة أخري من مسجد عين الحياة بالقاهرة.

 

وفي عام 1981 م تم اعتقال الشيخ عبد الحميد كشك وعدد من الخطباء الذين ساروا على منهجه في إطار اعتقالات 5 سبتمبر 1981 التي قام بها الرئيس الراحل أنور السادات، وكانت تهمة الشيخ عبد الحميد كشك في ذلك الوقت وتهمة تلاميذه من الخطباء هي معارضة كامب ديفيد، والازدراء بدولة صديقة هي إسرائيل، ومن الملفت للنظر هنا، أن المظاهرات لم تخرج في ذلك الوقت احتجاجًا على تلك الاعتقالات، إلا من ثلاثة مواقع فقط، وكلها للشيخ وتلاميذه هي مسجد عين الحياة بالقاهرة (مسجد الشيخ عبد الحميد كشك) ومسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية (مسجد الشيخ أحمد المحلاوي) ومسجد النور بالعباسية بالقاهرة (مسجد حافظ سلامة)، في حين غابت المظاهرات والاحتجاجات تمامًا من مساجد الإخوان المسلمين مثلاً، وهذا يدل على العمق الجماهيرى لمدرسة الشيخ عبد الحميد كشك.

 

وبعد مصرع السادات في 6 أكتوبر 1981، تم الإفراج عن الشيخ عبد الحميد كشك في يناير 1982، إلا أنه كان قد صدر قرار بعدم رجوع الشيخ عبد الحميد كشك إلى مسجده ومنبره في مسجد عين الحياة بحدائق القبة، ورغم كل الضغوط الشعبية فإن هذا القرار ظل ساريا حتى وفاة الشيخ عبد الحميد كشك في 6 سبتمبر سنة 1996 م.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply