بسم الله الرحمن الرحيم
- حرب 56 دفعتني للعمل العام، وهزيمة 67 أعادتني لهويتي.
- المال والمنصب والشهرة مغريات قاومتها في حياتي.
- كانت نشأتي بين العمامة والطربوش، وبين المدينة والقرية.
- شيخ الأزهر سليم البشري رباني رغم أني لم أره.
المستشار طارق البشري مؤرخ ومفكر فذ، له العديد من الكتب التي تعد بمثابة المراجع التي أرخت للحركة الوطنية في مصر قبل ثورة يوليو وبعدها، وكتاباته الفكرية والسياسية أثرت المكتبة العربية والإسلامية لقيمتها الفنية العالية.
وقد بنى طارق البشرى عالمه الخاص عبر التزامه الأخلاقي، وتفانيه في عمله، وتميزه في إبداعاته الفكرية، وقضى طارق البشري حياته المهنية قاضياً، وأنهاها وهو نائب رئيس مجلس الدولة، ورئيس الجمعية العمومية للفتوى والتشريع.
وكانت العلامة الفارقة في حياة طارق البشري يوم تحول من العلمانية إلى الإسلام، ويوم أن أصبح قيمة مضافة للفكر الإسلامي.
ونحن نتحدث معه اليوم عن حياته ونشأته والعوامل التي أثرت في شخصيتهº آملين أن تقتدي أجيالنا الناشئة بهذه الشخصية أخلاقياً وثقافياً، خاصة وأنه حفيد شيخ الأزهر سليم البشري.
* أين كانت النشأة الأولى والمولد؟
** ولدت في منطقة حلمية الزيتون في أول فبراير 1933ن في بيت الشيخ سليم البشري \"جدي\" الذي كان قد توفى منذ 16عاماً أي في عام 1917م، والشيخ سليم البشري مات ولم يترك سوى منزلين منزله القديم في البغالة في السيدة زينب، وكان فيه بعض أولاده، ومنزله الجديد في حلمية الزيتون وهو الذي عاش فيه الفترة الأخيرة من عمره، وكان المنزل مكوناً من ثلاثة طوابق، وبه ست شقق، وكان كل من الأعمام والعمات له شقة.
وأولاد شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري أحد عشر ولداً وبنتاً، وبالتحديد بنتان وتسعة أولاد منهم ولد توفي في حياة الشيخ وهو في عمر الشباب، وكان أكبر أبناء الشيخ سليم البشري الشيخ طه البشري، وكان أصغرهم أبي عبد الفتاح البشري، وكان أبي يعمل في القضاء المصري عام 1951م، وهو رئيس لمحكمة الاستئناف، ومات وهو في الثانية والخمسين من عمره، وأنا أصغر أولاد أبي، وأنا رابع أربعةº فلي أخت وثلاثة أخوة، وكان أغلب أعمامي مطربشين (أي يرتدون الطربوش) إلا أبي وعمي عبد الله الذي كان يعمل في الجيش ثم في ديوان الخديوي، وكان أبي قد تخرج في سنة وفاة أبيه عام 1917، وكان يحب أن يعمل بالمحاماة لكن أباه لم يترك مالاً يورث، ولم يتمكن من الحياة بغير راتب، فعمل في النيابة العامة والقضاء.
* في الطفولة المبكرة هل كان يحكي لك عن جدك سليم البشري شيخ الأزهر؟
** لقد نشأت في بيته، وكانت عماتي يكثرن من الكلام عنه، وعن حياته، وعن أفعاله، وتأثرت بهذا جداً حتى بدا لي في لحظة من اللحظات عندما كبرت أن الشيخ سليم البشري كان صاحب السهم الأكبر في تربيتي، فكنت ألبس عباءته وأنا صغير، وأتدفأ بها، وكان ما يزال في البيت بعض الأشياء عن سليم البشري.
وأهم شيء عرفته في حياتي نقلاً عنه أن قيمة الإنسان ليست في المال وليست في منصب، وهو لم يترك مالاً وعزف عن المناصب طوال عمره، وأُقصي عن الأزهر لأنه أصر على الدفاع عنه في مواجهة الخديوي، فأقصي عنة 5 سنوات ثم أعادوه من جديد بشروطه هو، وكان عازفاً عن الشهرة والتصوير لدرجة أنه له صورة أو صورتان فقط، ولكنه كان يعتبر العلم القيمة الأساسية، أما إنتاجه العلمي فله بعض الكتب، وكان يدّرس في الأزهر حتى وفاته، وقد جاوز الثمانين، وكان تخصصه في علم الحديث على المذهب المالكي.
* ما هي المدارس التي تعلمت فيها؟ وهل التحقت بإحدى المدارس الأجنبية؟
** تعلمت في المدرسة المصرية، وإن كنت أتذكر أنني التحقت لمدة شهرين أو ثلاثة بمدرسة أجنبية قبل الالتحاق بالمدارس المصرية، وكانت مدرستي الابتدائية هي مدرسة الزيتون الابتدائية بحلمية الزيتون، أما المدرسة الثانوية فكانت في مصر الجديدة قريبة منا، والكلية كانت كلية الحقوق جامعة القاهرة، وتعلمت التعليم الرسمي العادي، وكانت العمائم تحيط بي من كل جانب.
* ماذا عن الأم في حياة طارق البشري؟
** كان والد أمي معمماً أيضاً، وكان من خريجي الأزهر، وقد عمل سنين قليلة بعد تخرجه وحصوله على العالمية، ثم مكث في قريته القريبة من القاهرة قرية الدير مركز طوخ قليوبية، وهي أقرب للقناطر منها لطوخ، وكان بيننا وبينها خط السكة الحديد شبين القناطر، وظل في قريته حتى توفي عام 1945م يزرع بعض الأراضي التي كان يملكها، وكانت لديه مكتبة أزهرية فيها عدد لا بأس به من كتب الأدب والشعر القديم، وكنا نذهب ونقيم في بيت القرية كل أجازة صيف مع كل ما تيسر من الأجازات الأخرى، ورغم أنني من أبناء المدينة إلا أن اتصالي بالقرية كان قوياً في العشرين سنة الأولى من عمري، لذلك أتصور إنني نشأت في فترة تكويني الأساسية بين العمامة والطربوش وبين المدينة والقرية، أما الذي حاولت الأم أن تغرسه فيّ فهو كثير خاصة أن الطفل يتأثر بالقدوة أكثر مما يتأثر بالكلام الصريح، وأمي كانت هادئة الطبع، وكانت لا تحمل بغضاً أو غضباً لأحد، وكنت أشعر أحياناً حينما يستفزها أحد أنها في غاية الغضب، ولكن عندما ترى من استفزها يزول كل ما في نفسها من غضب، وكانت قدرتها على الصفح شديدة جداً، وكانت بسيطة وأولادها أهم شيء في حياتها، وكانت واهبة ومانحة.
* ما هي درجة قرابتك للأديب الكبير محمد فريد أبو حديد؟
** كان محمد فريد أبو حديد ابن عمتي، وهو وأبي ولدا في عام واحد، وهما أخوة في الرضاع، وكانا صديقين، وكنت اسميه عمي.
*هل تزوج الشيخ سليم البشري بأكثر من واحدة؟
** تزوج الشيخ سليم زوجته الأولى ولم ينجب منها، ثم تزوج جدتي وأنجب منها أكبر أولاده، ثم أنجبت له زوجته القديمة أولاده الشيخ عبد العزيز البشري، والشيخ أحمد البشري، وعبد الله بك البشري، وتوفيت زوجته القديمة قبل زوجها، فضمت جدتي إليها أولاد رفيقتها أي أن أولاد الشيخ سليم البشري الأحد عشر كانوا من زوجتين.
* كيف تقارن بين دور المرأة في هذه الأيام ودور المرأة أيام جدتك؟
** أعباء الحياة علي المرأة في الماضي كانت كثيرة في رعاية الزوج والأبناء، وإعداد البيت وأشياء كثيرة من التي نتلقاها من السوق الآن مباشرة، كانت تصنع في المنازل، لذلك كانت الأعباء كثيرة، وكان البيت مؤسسة، وكانت العلاقات الأسرية الممتدة كثيرة، وكانت عماتي تقمن بالعمل في البيت الكبير، ولكل منهن سكن مستقل، وكانت رعاية الرجل لأخواته البنات أمر مفروغ منه.
* لكن ماذا عن مرحلة الصبا وأهم العوامل التي ساهمت في صياغتها؟
** كانت لدينا الأعداد القديمة، والمجلدات الخاصة بمجلة الرسالة والهلال، وكنت أتصفحها وأقرؤها، وكنت أحب الشعر والأدب، وقرأت الكثير لجيل الأدباء والآباء بالنسبة لنا أمثال العقاد وطه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد فريد أبو حديد، وعبد العزيز البشري، وكنت أتابع بقدر الإمكان الكثير مما يكتبون سواء كانت كتباً أو مقالات في الصحف، وكنت أقرأ أيضاً في أمور أخرى، وأحببت كتاب المنتخب في الأدب العربي وكان يوزع علينا في المدارس، وكان كتاباً جيداً فيه منتخبات من أشعار العصر الجاهلي، وعصر صدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي الأول، والثاني، والعصر المملوكي، ثم العصر الحديث.
وكان الذي يجمع المنتخبات هو طه حسين، وأحمد أمين، والشيخ السكندري، والشيخ عبد العزيز البشري، وعلي الجارم، وكان هذا الكتاب هو المقدمة التي بدأت أتعرف منها على شعر السابقين وأدبهم، وخرجت منه إلى قراءة دواوين الشعر القديمة للمتنبي والمعري، والبحتري وحسان بن ثابت، والمعلقات العشر.. الخ، وكانت قراءاتي منذ الثانية عشر إلى الخامسة عشر من هذا النوع تقريباً، وكان أشقائي يشاركوني نفس الاهتمامات أخي ظافر البشري وزير التخطيط الأسبق، وأخي يحيي البشري - رحمه الله - وأختي.
* في المرحلة الجامعية هل كان لديك اهتمام فكري معين؟
** كان اهتمامي في المرحلة الجامعية بالقراءة في الأدب العربي أساساً مع قراءات في الفكر الإسلامي، وأتذكر أول كتاب قرأته للشيخ الغزالي - رحمة الله - كان عام 1951م، وكان كتاب عقيدة المسلم، وقرأته مرة واحدة بلا توقف فالغزالي أسلوبه فريد، ولدية جذب عاطفي، ويخاطب عقولنا، فكان مشبوب العاطفة ذكي العقل، وقد دخلت كلية الحقوق لأن أبي كان قانونياً، ولأن هواي كان من هذا النوع من الدراسة، وفي هذه الفترة بدأت أطلع على الفكر الغربي في مترجمات، كما أن الدراسة في الحقوق نفسها بدأت تؤثر فيّ، وأكثر ما أحببته وأنا في كلية الحقوق كان دروس الشريعة الإسلامية، ولذلك ففي الفترة التي كنت فيها من ناحية الفكر السياسي علماني التفكير كان من الأشياء التي أبقتني مجذوباً إلى الإسلام كنظام في المجتمع والمعاملات هو شدة احترافي القانون، وهضمي للتركيب الفني لأحكام الشريعة الإسلامية، وللبناء الفقهي التي انجدلت منه الأحكام المستخلصة من أحكام الشرع الإسلامي في القرآن والسنة، لأنني كنت أشعر أن الشريعة الإسلامية ربانية لا يأتيها الباطل، والفقه الإسلامي المتصل المجدول من أحكامها فروعا وأصولاً من أعظم ما تفتقت عنه العقلية الإسلامية فيما قدمته للحضارة الإنسانية.
وكان يوم مذاكرتي للشريعة هو يوم نزهتي، وتأثرت من أساتذة الشريعة بالشيخ عبد الوهاب خلاف، وما من كلمة قالها أو قرأتها له إلا وعيتها، وأحببت أسلوبه، وتأثرت أيضاً بالشيخ علي الخفيف بعمقه وتأصيلة الفقهي.
* لكن كيف بدأ اهتمامك بالعمل العام؟
** تخرجت عام 1954م وكان عمري تسعة عشر عاماً ونصف العام، وبعد ذلك بتسعة أشهر عينت في مجلس الدولة، وكان أبي قد توفي قبل ذلك بسنتين، وفترة السنوات الثلاث أو الأربع التالية لبداية عملي كنت متفرغاً للعمل، وتصورت أن الجهد الذي يمكن أن أقوم به لا يكون إلا في القانون فقط، حتى قراءاتي المتعلقة بالفكر أو الأدب أو الفلسفة كنت أتصور أنها ستكون نوعاً من أنواع الثقافات المساعدة للتخصص القانوني البحت، وكان اتجاهي السياسي في هذه الفترة متعلقاً بالحركة الوطنية والاستقلال، وكانت هذه هي القضية الأساسية التي تجذبني، وكانت الفترة التي شهدت نمواً في شخصيتي هي الفترة من عام 1945م إلى عام 1952م، وكان حزب الوفد في ذلك الوقت حزب حركة سياسية، وكان في المعارضة، وكنت أتعاطف مع هذا الموقف المعارض، ومع ذلك لم أنضم إلى الوفد، فلم تكن من عاداتنا أنا وأبي وجدي الالتحاق بالجماعات والأحزاب، فالفكرة الحزبية ليست من الأشياء الموجودة في تكويني، وقد نفعني هذا حين عملت قاضياً، فكان لدي استقلال في الناحية السياسية، وإن كان هذا الاستقلال لا يمكن أن يتحقق من الناحية الفكرية، فلا بد أن يكون الإنسان منحازاً من الناحية الفكرية، وفي السنوات الأربع الأولى لعملي في مجلس الدولة قرأت كثيراً بحماس شاب، وصحة شاب، أوغلت في القراءة، عرفتني مكتبة محكمة النقض، ومكتبة نقابة المحامين، ومكتبة مجلس الدولة، وقرأت أهم ما كتبه جيل الآباء من رجال القانون، وقرأت في المجلات القانونية المتخصصة مثل المحاماة والحقوق، وكنت أعالج الموضوعات التي تأتي لي في العمل معالجة تهتم بالعمق النظري، والقراءات الخارجية.
* كيف كان اختيارك لطريق العلمانية؟ وكيف تحولت من العلمانية إلى الإسلام؟
** بعد تخرجي ونتيجة لقراءاتي كانت علاقتي بالعلمانية أنني أقرؤها بدون أن أعاديها، لكن الكتابات العلمانية الفجة أو المغالية كنت أشعر بشيء من الغضاضة نحوها، ولم يكن في ذهني أن هذا ضد الإسلام، والخصومة مع العلمانية لم تكن حادة وواضحة إلى هذا الحد الذي هو قائم الآن، وقويت قراءاتي باللغة الإنجليزية، وكان لدى إلمام بالتاريخ الأوروبي السياسي، وبحركات السياسة الموجودة، وتعمقت هذه المعرفة بالتكوين الفكري الفلسفي والاقتصادي، وخرجت من مجموع هذه القراءات علماني الفكر السياسي، وقد صاحبتني هذه الفترة في حياتي لمدة عشر سنوات من عام 1960م حتى عام 1970م، وأبرز قراءاتي كانت في الفكر السياسي الغربي، وفي حركات السياسية الغربية، وفي حركات الاشتراكية، وتجارب ثورات العالم، وكانت أيامها حركات التحرر في العالم منتصرة، ودول عدم الانحياز قوية، وبدأت كتاباتي في الحركة السياسية، وبدأت أكتب في مجلة الطليعة ككاتب عام 1964- 1965، والنشر في هذه الفترة كان متقطعاً ومحدوداً كما هو حادث الآن، وكتابي الحركة السياسية بمقدمته يوضح كيف كنت أفكر، فكان تفكيري تفكيراً وطنياً فيه فكرة الاشتراكية قوية من حيث أنها عدالة اجتماعية، ومن حيث أنها بناء وطني مستقل من الناحية الاقتصادية والسياسية.
وإذا نظرنا في الصلة بين الفترتين السابقة وهذه الفترة نجد أن تفكيري في الناحية السياسية بدأ بفكرة الاستقلال الوطني السياسي، لكنه متصل بحركة استقلال عالمية، وبوحدة عربية، وبحركة بناء اقتصادي مستقل وقوي في الداخل، ففكرتا الاستقلال السياسي والاقتصادي أصبحتا مندمجتين، ولم يكن في ذهني بعد العنصر الثالث وهو الاستقلال العقيدي، كنت علمانياً قحاً في الفكر السياسي لأنني أكره التضارب والخلط، وكان لدي فكر إسلامي في أمور ثلاثة رئيسية هي معرفتي بالفقه والفقه يقودني إلى الشريعة، وهذا الأمر بقي لي كأساس مهني، واحترام بالغ لدور الفقهاء الإسلاميين، وقدرتهم غير العادية كنسق قانوني، والأمر الثاني يتعلق بالرزق الذي ظل دائماً في قلبي وعقلي أنه يتعلق بقدر الله - سبحانه -، ولم أشعر أني أعمل العمل العام مقابل أجر، وإنما على أساس أنه واجب، والأجر هو رزق يأتيني من عند الله، والأمر الثالث هو الصحة والموت وأنهما أمر مرهون بقدر الله.
* هل كانت هناك محطة تاريخية معينة وراء دخولك باب العمل العام والمشاركة السياسية؟
** أعتقد أن حرب 1956 نقلتني نقلة غير عادية في حياتي، لأن تأميم قناة السويس، والأزمة الدولية الكبيرة التي حدثت، ثم الغزو الثلاثي كل ذلك فعل بي الأفاعيل، وصرت أشعر أن ما أصنعه يمكن بعمل عسكري واحد أن يتغير بل ويتغير المجتمع، وينقلب ويتحول كل السياق التاريخي، فكل ما نصنعه نضعه على أرض يمكن أن تتغير بعمل عسكري واحد، وهذا ما أدخلني إلى السياسة بمعناها الحديث، وليس مجرد الحركة الوطنية والاستقلال، فقد دخلت إلى مشكلتين: الأولى سألت نفسي هل أنت رجل قانون فقط، وتريد أن تكون كذلك فقط؟ أم أن هناك مجالات أخرى في المجتمع تنادي من لديه إمكانية أن يتقدم؟ ولأول مرة تطرح لدي فكرة المشاركة في الشأن السياسي، وشعرت بأنني سأكون آثماً لو لم أفعل، لأننا مواطنون ثم مهنيون، والاقتصار على المهنة فيه تفريط في حق الوطن، ولكي أصل إلى هذه الصيغة كنت أنقل نفسي من حال إلى حال، ومن عاطفة إلى عاطفة، فكان الأمر نقلة قلبية وعاطفية وفكرية، ونقلة في الاعتياد تأخذ وقتاً وقلقاً، وبدأت أعزز مكتبتي بالكتب الحديثة عن الفكر السياسي، والحركات السياسية، وعن التاريخ على مدى شهور طويلة وسنوات، ولم يحسم هذا الأمر بين يوم وليلة وإنما أخذ مدى حتى عام 1958م.
* لكن ما هي المحطة التاريخية والنقطة الفارقة التي جعلتك تنجذب ناحية الإسلام؟
** إذا كانت حرب 1956م جعلتني أقف وأفكرº فإن حرب وهزيمة 1967م جعلتني أفكر مرة أخرى لأسال نفسي عن مسلماتي، وسألت نفسي: من أين أتت الهزيمة، هل لأن الاستعمار ضربنا؟ أم لأننا كانت لدينا قابلية لذلك، ولم أكن أشك في وطنية عبد الناصر، ومن هذه النقطة بدأت أفكر في كتابي الحركة السياسية، وبدأت قراءاتي تختلف، وبدأ فكري يختلف، وبعد أن كان الاهتمام بالأدب العربي ثم الأدب الأجنبي، والمسرح والقصةº فقدت اهتمامي بالمتابعة الأدبية، وأصبحت أشعر أنها لا تغذيني، ولا تجيب على الأسئلة التي في ذهني، وبدأت أسأل نفسي: من نحن؟ إننا نريد أن نستقل، أي أن تكون إرادتنا السياسية ملكاً لنا، وإذا أردنا ذلك فعلينا أن تكون لقمة عيشنا ملكاً لنا أيضاً، ولكن قبل ذلك هناك مجموعة من العقائد وشعور الجماعة بتميزها وبترابطها وبإحساسها بالانتماء المشترك، لكن من أين يأتي هذا؟ أنه يأتي من الجانب العقيدي والتاريخي والحضاري، والصيغة العلمانية لم تعطه حقه، إن العلمانية حينما تقول لي: استقل سياسياً واقتصادياً تفقدني الهوية التي بها استقل، وتفقدني إرادة الاستقلال، فاستقلالي هنا لا يكون بإرادة استقلال حقيقية، ومن هنا بدأت استعادتي لهويتي، وبدا لي الفكر العلماني في مأزق لأنه يؤدي إلى تجريد الإنسان من هويته المرتبطة بعقيدته وحضارته، بالإضافة إلى أنها مناقضة لقيم الديمقراطية، لأن الديمقراطية في النهاية تكوينات شعبية لها استقلالية ذاتية في إدارة شئونها الخاصة، وانصياع لحكم الغالبية من الناس الذين قد اختاروا الموقف الديني، والموقف العقائديº أساساً لرؤيتهم ودنياهم.
وكانت قمة استعادتي لهويتي الإسلامية رحلة الحج التي قمت بها عام 1983م، ولم أسافر للحج إلا بعد أن وجدت نفسي خلصت لهذا الأمر، وأعدت بنائي الفكري والسلوكي على أساس إسلامي، وقد أخذ مني ذلك وقتاً كبيراً حتى أسافر وأنا نظيف، وهناك شعرت كأنني خرجت من جاذبية كوكب معين إلى جاذبية كوكب آخر، وحينما رأيت الكعبة سألت نفسي: من الذي آتى بي إلى هنا؟ وشعرت بهداية الله، وتذكرت قوله - تعالى-: ((ثم تاب عليهم ليتوبوا)).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد