الشرق الأوسط الكبير أو الجديد خطة مشبوهة يجب ألاّ ننخدع بها


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ربما لم يدرك (إيهود أولمرت) رئيس وزراء الكيان الصهيوني أن إشعال شجرة في غابة «الشرق الأوسط» قمين بأن يتحول إلى كتلة نار هائلة تمتد إلى داخل كوخ حكومة «العدو الصهيوني»، ولعله، ووزيرة خارجيته (تسيبي ليفني) ووزيرة خارجية الولايات المتحدة (كونداليزا رايس) قد ظنوا أن ضحكاتهم التلفزيونية يمكنها أن تخفي عمق الموقف المأزوم لحكومتيهما، وحيث حاكوا ضحكات زعيم «حزب الله» (حسن نصر الله) في لقائه مع الجزيرة فاتهم أن ابتساماتهم وابتسامات جنودهم في مشاهد تلفزيونية مصنوعة لا تسحب بُسُط الصدقية من بيانات العدو المضاد أو تمحو رسائل الموفدين التلفزيونيين للقنوات الفضائية التي جسدت بدورها أرفع تغطية لحرب عسكرية على الأرض منذ فجر التاريخ.

 

ضحكات النصر تلك قد لا ينظر لها بعض الناس بارتياحº فكيف إذا كانت ضحـكات انكسـار لا تـدل إلا على اضطراب فكري وحيرة في الموقـف السياسي؟ ألم يَلُم سيفُ الدولة الحمداني أبا الطيب المتنبي حين قال:

 

تمر بك الأبطال كلمَى هزيمة *** ووجهك وضاح وثغرك باسم

 

لاعتبار أن الفطرة السليمة لا تجيز الشماتة بالجرحى من أبـطال العـدو؟ فكيف إذا استبقت الضحكات جريمة قتل الأطفال المعاقين وغير المعاقين في قانا بساعات..أليس الأمر يكون قد بلغ المنتهى في دمامته؟! ناهيك عما لو أضيف لهذه الارتكاسة الحضارية والتدني الأخلاقي أن هؤلاء «الأبطال» الكلمى هم جنود القائد نفسه الذين يستعرض انهزامهم وتراجعهم وفشلهم، وهو يضحك مفارقاً حكمة وعقل ما كان لهما أن يفارقا رأسي الدبلوماسية الأمريكية والصهيونية في هذا المقام.

 

وإذا كانت الابتسامات لا تستر الأوضاع العسكرية على الأرض فإنها كذلك لا تبني السياسات في الأروقة، وهو ما جلته الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية «للأرض المحتلة» في الأسبوع الثالث من الحرب العدوانية على لبنان، والتي شنها «العدو» في الأسبوع الثاني من شهر يوليو الماضيº فما رشح من الزيارة هو مفردات أزمة حقيقية تمر بها السياسة الأمريكية في «الشرق الأوسط».

 

فأول هذه المفردات: هو سوء تقدير (رايس) للوقت الذي جاءت فيه لتزرع أملاً وهمياً حول شيء هلامي أسمته «الشرق الأوسط الجديد»، وهو لفرط فجاجته قد دعا (ألبرتو فرناندو) مدير مكتب الشرق الأوسط في الدبلوماسية العامة بالخارجية الأمريكية لأن يقول لصحفي عربي في واشنطن: «لقد بالغ البعض في تضخيم هذا الموضوع، وما قالته رايس هو أنه في النهاية يجب أن يكون هناك شيء أفضل، ولم تقل إن العنف يمثل الشرق الأوسط الجديد والمثال الأمريكي.. بل كل ما قالته إن منطقة الشرق الأوسط تستحق شيئاً أفضل». غير أن (فرناندو) نفخ في نار التساؤلات فزادها اشتعالاً بدلاً من أن يطفئها، فـ (رايس) قد قطعت آلاف الأميال في ساعة حرب لكي تقول: إن «الشرق الأوسط» يستحق أفضل مما هو فيه.

 

الواقع أن (رايس) باحت بحلم تتوق إليه الولايات المتحدة الأمريكية ولَـمَّا ترَ إرهاصاته، وخانها التوقيت أو بالأحرى كشفها التوقيت فتبدى من مضامين كلامها ما أخفقت الولايات المتحدة الأمريكية في إخفائه، وهو أن «الشرق الأوسط الجديد» هو مولود لا يمكن للدولة العظمى استيلاده إلا من رحم الحروب وعبر تناثر جثث الأطفال والرضـع، ونحـسـب أن مـا يسـمـى بـ (ثورة الأرز) لا يمكن أن تكون معبراً لطموح دولة مغرمة بالحروب الاستباقية والتكتيكية والشاملة والمحدودة والمفتوحة وغيرها من قاموس الولايات المتحدة الأمريكية الحربي، وإنما المعبر في لبنان ـ كما هو في العراق ـ عبر تجريب كافة الأسلحة القانونية وغير القانونية في الشعب المنتخب لتطبيق المشروع عليه من بين رفقائه.

 

لم يخن وزيرة الخارجية الأمريكية التوفيق في اختيار التوقيت لإطلاق «بشارتها» في لحظة الحرب بما تستدعيه لتجربة الولايات المتحدة الأمريكية الفاشلة في العراق من ذكريات مؤلمة لشعوب المنطقة، بل خانها أيضاً أنها أطلقتها في وقت كانت منيت فيه وكيلتها «العدو الصهيوني» بتعثر حملتها العسكرية النكراء في الأيام التي سبقت تصريحاتها تلك.

 

استعاضت وزيرة الخارجية الأمريكية عن ذكر «الشرق الأوسط الكبير» بآخر «جديد» لأن الظرف حقيقة لم يمنحها هذا الاتساع الذي كانت إدارتها تأمل بهº واقتصرت على زيارة «الدولة الصهيونية» ولم تفلح في لقاء رئيس الوزراء اللبناني (فؤاد السنيورة) على ما في ذلك من دلالة بالغة الحساسيةº فالسنيورة رئيس حكومة تحسب في معظمها على تيار 14 مارس الذي أتهم لدى إعلان بأنه وثيق الصلة بالولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى أنه رئيس وزراء دولة «شرق أوسطية» صغيرة نسبياً ولا يمكنها بسهولة رفض استقبال وزيرة خارجية الدولة العظمى التي اعتادت أن تكون دائماً محل ترحاب من جميع الدول العربية للحد الذي يجعل إحجامها عن زيارة أي قطر عربي هو نوع من العقاب أو إبداء الغضب منه، وهو ما كان بعضهم يَفرَق منه ويخشاه.. أما في تلك اللحظة فقد جاءت من أقصى الأرض، فإذا دول عربية حليفة تربأ بنفسها عن استقبالها، فتقتصر زيارتها على تل أبيب دون العواصم العربية!

 

وثاني مفرداتها: أن الولايات باتت عاجزة عن حل معضلة يذهب كثير من المحللين أنها قد حملتها على عاتقها أكثر مما تحملها «دولة العدو» ذاتها، لا من حيث (الفاتورة) العسكرية الصهيونية المدفوعة وإنما في أهداف تلك الحرب، ومردٌّ العجز ليس إصرارها على استمرار الحرب حينها، وإنما في سوء تقدير الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها «دولة العدو» في إدارتها عسكرياً وسياسياً على هذا النحو الهزيل والفضائحي.

 

وثالث مفرداتها: أن سياسة الولايات المتحدة في لبنان قد خسرت نقاطاً دبلوماسية وسياسية وعسكرية في صراعها مع «حزب الله» وإيران وسورية من ورائه، تبدت ملامحه في عدم استقبال أي من الدول العربية لها في هذه الزيارة، وهو بدوره ما عكس شعوراً بأن سياسة الولايات المتحدة حدَّت ـ برعونتها ـ من هامش حرية تحرك الدول العربية التي كان من الممكن أن تلعب دوراً مسانداً لها عبر إسقاط الكثير من أوراق الحلفاء العرب في المنطقة، وهو ما نتج عنه تمدد نفوذ محور إيران ـ سورية في لبنان دون أن تتمكن أي دولة حليفة للولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي من لعب دور يمكن أن يستغل في لحظة ما لأجل إخراج الولايات المتحدة ووكيلتها (الدولة الصهيونية) في الصراع مع إيران من مستنقع الجنوب اللبناني الذي ولغا فيه بقدر كبير من سوء التقدير.

 

ومن هنا كانت الزيارة الخاطفة أصدق تعبير عن مأزق السياسة الأمريكية في المنطقة المسماة بـ: «الشرق الأوسط الجديد». وفضلاً عن هذه الزيارة يتبدى المشهد كله في غير صالح تلك السياسةº فمجزرة (قانا) التي أريد لها التغطية على هزيمة مؤقتة من خلال تغيير ما يدور إلى مشهد أولِع به «الصهاينة» لرؤيـة دماء الأطـفال مـن «الأممـيين» تتـناثر اشلاؤهم هنا وهناك إذعاناً لما تطالبها به «أسفارهم المحرفة»، فضلَّت طريق هدفها فأوقعت الحلفاء في حرج بليغ جعل من المستحيل عليهم التماهي مع الإرادة الأمريكية تحت طائلة الضغط الشعبي، الذي ألجم أي موقف لبناني أو عربي عن أن ينحاز ولو قليلاً للسياسة الأمريكية ويتجاوب مع متطلباتها، فأي سبيل أُفسِحَ للسنيورة لكي يستقبل وزيرة الخارجية الأمريكية فضلاً عن أن يستمع إليها وقد سدت الجماهير الطريق من المطار بحاجز بشري ينبئها بأنها شخص غير مرغوب فيه لبنانياً بكل ألوان طيفه الطائفي والديني، فأصحاب ثورة الأرز خندقهم الرأي العام في معسكر الرفـض للسياسة الأمريكية بكل حيثياتها بما فيها قرار 1559 الذي بـات شـباب 14 مارس ليـاليهم فـي الشـوارع من قبلُ مـؤيـدين له(1)، بعد أن تقبلوا هذه السياسة لفترة أملاً في جلب السلام لهم فأوصلتهم إلى القتل والتهجير والرعب.

 

ثانياً: يضاف إلى ما سَبق ما تُولَع به الجماهير دوماً من الانحياز لمن يحقق نصراً على العدو التقليدي ذي الثارات القديمة مع الشعب اللبناني، وهو ما وفره الحزب، فغدا من الصعب أن تخالف الحكومة اللبنانية هذا المزاج العام لبنانياً وعربياً كذلك.

 

وثالثاً: ما قد وفره «حزب الله» من غطاء لحكومة السنيورة بوضع مواقفه ـ الظاهرية ـ خلف مواقف الحكومة وتشجيعه إياها على المضي بسبيل الاستناد إلى نجاحاته والإفادة منها في تلك المرحلة، وقد قال (نـصر الـله) في خطـابه المتلفـز بتاريخ 29 يوليو الماضي: «نحن حريصون في هذه المرحلة أن تكون الحكومة قوية لتتحمل مسؤولياتها الوطنية من أجل لبنان وشعبه.. نحن حريصون أن نتعاون مع الحكومة ومع كل التـيارات والقوى السياسية لنقدم لبنان موحداً متماسكاً حول ما يحفظ ويضمن مصالحه الوطنية».

 

ورابعاً: ما قد تكشفت عنه السياسة الفرنسية إزاء «مستعمرتها» السابقة/ لبنان، من رفض لأي ترتيب «استعماري» جديد يدار من خلف ظهرها تحت ذريعة نشر قوات دولية في الجنوب اللبناني يُقصي النفوذ الفرنسي في لبنان أو يحد منه، ويمنع من ثَم حضورها في «الشرق الأوسط الجديد»، ولا شك أن الموقف الفرنسي الداعي إلى وقف إطلاق النار فوراً وتطبيق 1559 يضع باعتباره العلاقة الوطيدة التي تربط فرنسا بإيران ومن ثم حزب الله على خلفية حقيقة أن فرنسا ـ إلى جانب الصين ـ من بين الدول الرئيسية في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وروسيا)، تعاني من عدم امتداد نفوذها إلى أي من الدول النفطية، فيما عدا إيران التي لا تود أن تخسرها في هذه الحرب أو في المسألة النووية أيضاً.

 

وهذا الموقف الفرنسي لم تبده زيارة وزير خارجية فرنسا لنظيره الإيراني (منوشهر متقي) في السفارة الإيرانية ببيروت أثناء زيارة الرجلين لها بما تعكسه من دلالة دبلوماسية على انتصار مرحلي لـ: «حزب الله» في معركته مع الكيان الصهيوني فحسب، وإنما بدا كذلك من موقف الجنرال (ميشيل عون) الحليف النصراني لفرنسا والذي يقف إلى جانب «حزب الله» في معركته، ويمنحه غطاءً شعبياً في الطائفة المارونية التي وإن لم تتوافق كلها حول مسألة أسر الجنديين الدرزيين «الصهيونيين» من أجل تحرير الأسير الدرزي اللبناني سمير القنطار ورفيقيهº إلا أنها لم تتمكن من مخالفة المزاج العام شأنها شأن الطائفة السنية التي ينتمي إليها (السنيورة) و (سعد الحريري) اللذين لم يجدا بداً من التبني الجزئي لخطاب «حزب الله» في زمن الحرب.

وخامساً: مما قد ينبئ عن المأزق الأمريكي، ما بدا تحولاً في خطاب بعض الدول العربية في التعاطي مع الأزمة أماطت عنه على سبيل المثال زيارة وزير خارجية مصر (أحمد أبو الغيط) إلى بيروت في وقت رفضت فيه كل من القاهرة وبيروت استقبال (كونداليزا رايس).

 

وسادساً: زيارة (منوشهر متقي) إلى بيروت على شاكلة الفاتحين أثناء استمرار المعارك بما قد أظهر اليد الفولاذية لإيران في المعركة الدائرة، لا سيما أن «دولة العدو» وهي تخوض حربها كانت في تلك اللحظة مدركة عن يقين أنها تحارب إيران من خلف «حزب الله» لكنها عاجزة عن منع (متقي) من تحديها بزيارة بيروت أثناء القصف على قرى الجنوب اللبناني.

 

ولعل «الدولة الصهيونية» قد أدركت أن سلوكها الأرعن في الجنوب اللبناني لا يمكن أن يحقق انتصاراً كاسحاً على «حزب الله» لأن أي تبدل في ميزان القوى في هذه الجبهة يمكن تعويضه من خلال امتداد الحزب سورياً وإيرانياً، هذا السلوك الفاضح لدى «الصهاينة» يشكل جهلاً بالجغرافيا السياسية للمنطقة في وقت تعلم فيه أن لهذا الحزب حلفاء أقوياء لم يقولوا كلمتهم بعد.

 

ما لم يكن مطروحاً قبل الحرب هو أن تفرز واقعاً جديداً يفيد إيران في المنطقة أكثر مما يضرها ويقدمها خطوة للأمام في سبيل أن تكون لاعباً بالغ الأهمية في المنطقة، بل ربما اللاعب الأهم فيها.. ربما كانت تركيبة تنظيم «حزب الله» عصية على التركيع الأمريكي التام ولو غُلبت في معركة ما أو تراجعتº لأنها تستند إلى غطاء شعبي كبير في الجنوب اللبناني، وتتمتع بقدرة عالية على المراوغة والاحتفاظ بمعظم قوتها الضاربة والانحياز بها في ساعة الخطر، وهو كله يصب في جدول إيران النووية التي استبقت حرباً على حليفها القوي في لبنان أو ربما عليها هي في سبتمبر أو أكتوبر بحسب قول زعيـم حـزب الله «حسـن نصـر الله» في خطابه المتلفز، وهو ما يردف التصعيد الأمريكي بشأن تخصيب اليورانيوم الإيراني الذي قد يكون يعالج قُمقُمَه الآن لكي يخرج مارده من رحم الحرب هذه في الحرب الثانية.

 

أما على الصعيد العربي، فرغم محاولات بعض الدول إيجاد موضع قدم لها في الترتيب الجديد للبنان ما بعد الحرب، إلا أن المشهد يكاد ينسحب على لاعبين اثنين هما الأوفر حظاً من الدول العربية التي ربما صارت بحاجة لأن تعيد قراءة الخارطة من جديدº لأنها قد تصحو وقد ابتاعت الوهم وغيبت الاستراتيجية وبعثرت أوراقها من دون ثمن، حتى تلك التي صارت حليفة لإيران ضاربة بما يسمى بـ (القومية) عرض الحائط، بطريقها لأن تصبح هي كما كانت لبنان ما قبل 1559 أو ربما كذلك لبنان ما بعد الحرب.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply