سواء صح الخبر أم لم يصح، قد لا تكفي عبارات الأسى للتعبير عن الموقف العام من انتهاك حرمة المصحف الشريف، إنها أزمة عاشتها الأمة واختُبرت فيها قوتها، وكشفت عن حالة خطيرة تمر بها، وتثير عدداً كبيراً من الأسئلة قد لا تكفي لصياغتها أسماء الاستفهام المعروفة.
ويكفينا هنا طرح ثلاثة منها للنقاش:
- لماذا لم تُثر القضية حينما أُعلن خبر انتهاك حرمة المصحف قبل نشره في المجلة الأمريكية؟
- لماذا لم ترق ردود الأفعال الرسمية إلى مستوى ما أذيع أنه انتُهكت حرمته؟
- ماذا لو لم يعتذر أحد عما حدث؟
ولا تحتاج الأسئلة إلى إجابة بقدر ما تحتاج إلى عمل لإصلاح أوضاعنا، ولكن لا مانع من مناقشتها لمعرفة مواطن الخلل، وللإشارة إلى بعض الدلالات المهمة فيها:
ولنأت إلى المحور الأول:
لماذا لم يتحرك أحد إلا بعد صدور الخبر عن مجلة أمريكية؟
هذا الخبر صرح به مصدر موثوق قبل أن تنشره المجلة الأمريكية، وهو بعض من أُفرج عنهم من جونتانامو، حيث جاء على لسانه في بعض القنوات الفضائية أن المصاحف تُنتهك حرمتها في أثناء التحقيق لممارسة الضغط على الأسرى، لكن لم يهتم أحد بما قال وقتها، ولم يتحقق أو يتحرك أحد إلا بعد صدور الخبر عن مجلة أمريكية! وهذا يدل على مدى ما وقعت فيه كثير من الجهات الإعلامية في بلاد المسلمين من التبعية الإخبارية والإعلامية عموماً، فالخبر لا يأخذ مصداقيته القوية وحرارته إلا بعد صدروه من الإعلام الغربي، بل بعض الجهات التي استنكرت طلبت التحقق من الأمر من الدولة التي تعتقل الأسرى، وكأن تصريح بعض المعتقلين الذين أُفرج عنهم لا يكفي لإثارة الموضوع، فننتظر حتى نتحقق ممن يعذبون الأسرى وينتهكون حقوقهم ولا يحاكمونهم ليؤكدوا لنا خبر انتهاكهم لقدسية المصحف، فكيف نثق بمن هو متهم بالظلم وارتكاب الجرائم في حق الأسرى!! إنها تبعية خفية لم يشعر بها كثير من الناس في هذه الأزمة.
ولنأخذ المحور الثاني في القضية:
ردود الأفعال الرسمية ومستوى الحدث:
ردود الأفعال إزاء قضية تمس كرامة أمة لا بد أن تكون قوية تتناسب وحجم القضية، وتوازي أو تزيد على حجم المهانة، ليتم حفظ كرامة الأمة أمام غيرها من الأمم، ولردع كل محاولة لتكرار تلك المهانة أو غيرها.
وإذا نظرنا لما حدث من انتهاك قداسة المصحف الشريف، لوجدنا أن ردود الفعل كانت في الغالب قاصرة على احتجاجات شعبية، قادتها في الغالب أيضاً الجماعات والتنظيمات الإسلامية، وهذا ما حفظ للأمة بعض كرامتها وألقى في قلوب الأعداء ببعض الخوف والهيبة، ولكن نظراً إلى فظاعة الجريمة وبشاعتهاº أتكفي المستويات الشعبية في الإنكار والاحتجاج؟!
بالنسبة إلى خطورة الحدث وقدسية ما انـتُهكت حرمتهº لا هي ردود فعل كافية، ولا قوتها تحفظ للأمة كرامتها بصورة كاملة، ولا هي قوية حتى تردع محاولات تكرار تلك الإهانات التي توجه كل حين للمسلمين، ولا ننسى ما حدث في السنوات الأخيرة، مثل إهانة بيرلسكوني الإيطالي للمسلمين علناً، والإهانات المتكررة لشركة والت ديزني للمسلمين لا سيما إهانتها للكعبة المشرفة، وإهانة شركة الأحذية نايك للفظ الجلالة (كانت تكتبه على أحذيتها)، وكتابة الآيات القرآنية على ملابس نسائية فاضحة، إلى غير ذلك من الإهانات. أضف إلى ذلك مهانات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية.
إن هذه الاحتجاجات الشعبية كان لا بد أن يسبقها ردود فعل رسمية توازي بشاعة الجريمة، لكن ردود الفعل الرسمية اقتصرت على دولتين أو ثلاث وكان ينبغي أن يكون الرد من جميع الدول العربية والإسلامية، وأن يكون هناك تلويح بعقوبات سياسية واقتصادية.
لماذا لم يُعقد اجتماع رسمي بين الدول؟! حيث كان ينبغي أن يجتمع قادة العالم الإسلامي لمناقشة هذه الجريمة، وتخيل لو حدث هذا كيف كانت صورة المسلمين وهيبتهم سترقى إلى ذروة لا نحلم بها في عصرنا الحاضر، بفضل اجتماع واحد لنصرة كتاب الله تعالى! ألم تُرسل برقيات التهنئة لزواج ديانا من جميع تلك الدول، وبرقيات التعزية في موت ديانا من جميع تلك الدول، أفلا تكون هناك برقيات استنكار واعتراض لانتهاك حرمة الدين؟!
ولم يشارك في الاستنكار والتعبير عن الغضب فئات كثيرة من المسلمين، فأين باقي علماء الأمة، وأين مثقفوهم، وأين ذوو النفوذ وأصحاب الاستثمارات والأموال، أين الشخصيات المهمة والمشهورة وغيرهم، كهؤلاء الذين أسرعوا لاستنكار إعلان طالبان عن عزمها هدم تمثالي بوذا، أما كان ينبغي لهؤلاء أن يستنكروا ولو بإصدار بيان مختصر؟!
ولم يهتم بالخبر أو حتى بالتحقق منه إلا بعض القنوات ووسائل الإعلام الأخرى، وكان ينبغي أن تشارك القنوات كلها في استنكار ما حدث، فليس هذا أقل من وفاة أمير أو رئيس، إنه انتهاك حرمة المصحف، ألم نر كيف خُصصت أوقات وصفحات كثيرة في قنوات وصحف ومجلات لنقل العزاء وما بعد العزاء وللتأبين والتذكير برحيل بعض القادة، أفلا يستحق منا كتاب الله تعالى مثل ذلك!!
ألم تخصص أوقات وصفحات لعرس ديانا ثم موتها وجنازتها؟! ألم تخصص أوقات لموت بابا الكاثوليك؟! ألا تُخصص أوقات وصفحات وقنوات لمباريات الكرة والألعاب، ألا يغار أصحاب تلك القنوات والصحف والمسؤولون عنها على دينهم وكرامة أمتهم؟!
ولنناقش المحور الثالث:
ماذا سيكون الحال لو لم يعتذر أحد؟:
ماذا لو لم يعتذر أحد عما حدث من انتهاك حرمة المصحف في سجن جوانتانمو، وماذا يمكن أن يحدث لو أُعلن في اعتراف رسمي على سبيل التحدي - بوقوع ما تتناقله وسائل الإعلام من انتهاك حرمة المصحف الشريف - ولا أتمنى أن يكون هذا هو الحال-؟
لكن لنفرض ذلك لنضع أيدينا على نقاط الضعف الحقيقية في الأمة، لو فرضنا حدوث هذا أفنتوقع ردود أفعال أكثر مما رأينا؟! أو نتوقع أكثر من حرقة قلوب بضع مئات من الأمة وعلمائها، هي وحدها التي أهمها الأمر، لتنتهي الجريمة بعدها وكأن ما جرى لم يكن!!
الضعف في الأمة ليس سببه قصوراً في قوتنا البدنية فما أكثر البدناء، وليس سببه نقصاً في الأموال فما أكثر الأغنياء، وليس سببه نقصاً في قوة عسكرية أو سياسية فما أكثر الجيوش وما أكثر الساسة، بل هناك دولة إسلامية تملك السلاح النووي.. إن الضعف كامن في ضمور العقيدة في قلوب كثير منا، العقيدة بأركانها لا يجهلها غالب المسلمين، لكن أغلبهم لا تمثل العقيدة في حياته محوراً يتحرك به، ومنهجاً يسير عليه، ومنظاراً يرى به الحياة.
هذا الضمور في العقيدة أسبابه كثيرة، وعوامله متعددة، كالتغريب، وسلبيات الانفتاح الإعلامي العالمي، وعزل الدين قهراً عن الحياة في كثير من الدول الإسلامية، وفتح الفئات العلمانية المتغلبة لأبواب الفساد، والرضا بها لتملأ قلوب الناس بدلاً من أن تمتلئ بالدين، رغبة في السيطرة وإحكام قيادة العقول وصياغتها حسب التوجهات العلمانية.
إن عقيدة الإسلام كفيلة بأن تغير حال الأمة، وترقى بها إلى العزة والكرامة، وتجعل ما تملكه الأمة من قدرات متنوعة بشرية ومادية وعلمية مصدر قوة، وتُعيد لها هيبتها التي لم تفلح كثرة أعداد المسلمين اليوم المشتتة في إعادتها، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت"، فالعقيدة معروفة لكنها ضعفت بحب الدنيا وكراهية الموت، وإحياء العقيدة في النفوس كفيل بمعالجة هذه الآفة.
أيمكن ألا يعتذر أحد أو أيمكن أن يعترفوا بأنهم أهانوا حرمة المصحف وقدسيته؟
الجواب أن هذا احتمال وارد في المستقبل في حالة واحدة، وهي إذا استمر المسلمون في ضعف كلمتهم وتفرقهم وتخاذلهم في نصرة الدين، والذي يقوي هذا الاحتمال أن أعداء الأمة كلما رأوا منها إذعاناً زادت جرأتهم وطمعوا فيما هو أكبر وأعظم، والواقع يشهد لذلك، والتاريخ يؤكد ذلك، انظر إلى ما وصل إليه حال النصارى لما تهاون المسلمون في الأندلس في عصر الضعف، وأذعنوا للنصارى وسعوا في نيل مرضاتهم، لما حدث هذا تجرأ النصارى تجرؤاً شديداً فصاروا يُهينون الإسلام بلا خوف ولا وجل، قال ابن عذراى: "بلغ من استخفاف أهل قرطبة بالإسلام أن رجلا نصرانياً وقف في أعظم شوارع قرطبة... ونال من النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرفه وكرامته، ولم يكلمه أحد منهم بكلمة، فقال رجل من المسلمين غيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تنكرون ما تسمعون؟ أما أنتم مسلمون؟ فقال له جماعة من أهل قرطبة: امض لشغلك. وكان الإفرنج إذا سمعوا الأذان يقولون قولاً لا يذكر، فلا يعترض عليهم أحد بشيء".
ولهذا لم نخسر الأندلس لأن النصارى كانوا أقوياء، بل لأن المسلمين ضعفوا، وتركز ضعفهم في عدم رسوخ العقيدة، فضَعف فيهم كل شيء، فسدت فيهم كثير من الأخلاق، وتشبهوا النصارى، وضعف فيهم حب الجهاد والدفاع عن الدين ونصرته، لما حاصر ألفونس - وهو من ملوك النصارى - مدينة طليطلة بالأندلسº بعث إليه أمير المدينة المسلم ليفاوضه على فك الحصار، فقال ألفونس رافضاً ترك المدينة ومعبراً عن أن ضعف المسلمين فرصة ذهبية لا يمكن تركها: "كيف أترك قوماً مجانين [يقصد قادة المسلمين]... وكل واحد منهم لا يسل في الذب عن نفسه سيفاً، ولا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً، قد أظهروا الفسوق والعصيان، واعتكفوا على المغاني والعيدان".
وقال أحد قادة النصارى بعد إحدى المعارك التي شاهد فيها ضعف المسلمين في دينهم: "كنا نظن أن الدين والشجاعة عند أهل قرطبةº فإذا القوم لا دين لهم، ولا شجاعة فيهم، ولا عقول معهم". فكان النصارى أنفسهم يعرفون ويشهدون أن سبب انتصارهم هو بعد المسلمين عن العقيدة والدين، فأخذوا في إذلالهم، والسيطرة عليهم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وأرغموهم على دفع الإتاوات الباهظة، وتطور الأمر إلى دعوة قادة المسلمين ليدخلوا النصرانية، إلى أن ضاعت الأندلس.
وهذا هو نفسه سبب ضياع أجزاء من بلاد المسلمين في العصر الحديث، كالهند بعد أن كانت مملكة مسلمة، وبعض إقليم كشمير، وإقليم في إندونيسيا، وغير ذلك، وأمامنا أجزاء أخرى من أمتنا ماثلة للضياع كما في السودان والعراق إن لم يتدارك المسلمون الأمر ويعودوا لمصدر عزهم، وسبب قوتهم. وهكذا تطور الأمر في عصرنا من تبعية إلى هيمنة إلى إذلال إلى احتلال إلى أسر إلى إهانة المقدسات في حالات فردية قد يتبعها حالات جماعية!
ولقد رمانا المشركون بأسهُم *** لم تُخط لكن شأنها الإصماءُ
جاسوا خلال ديارنا فلهـم بها *** في كل يوم غارة شــعواءُ
ماتت قلوب المسلمين برعبهم *** فحُماتنا في حربهم جــبناءُ
كم موضع غنموه لم يُرحم *** به طفلٌ ولا شـيخٌ ولا عَذراءُ
لولا ذنوبُ المسـلمين وأنهم *** ركبوا الكبائر ما لهن خـفاءُ
ما كان يُنصر للنصارى فارسٌ *** أبداً عليهم، فالذنوب الداءُ
لو كنت مكانه:
سجّل التاريخ لنا في العهد الأول قولة زيد بن الدَّثِنَةِ التي صاح بها على رؤوس الكافرين، حينما سألوه عما في نفسه وهو على وشك القتل أيتمنى أن يكون نجا ويكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكانه..
زيد بن الدثنة - رضي الله عنه - صحابي جليل أسره المشركون، وصلبوه ليقتلوه فقال له أحدهم: أتحب أن محمداً عندنا الآن مكانك فنضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي!
إلى هذه الدرجة كانت الغيرة على الدين ومحبته في قلوب الصحابة، أعلنها زيد بن الدثنة - رضي الله عنه - في الجيل الأول، لكن صداها لا يزال يتردد عبر صفحات الزمان لعلها توقظ الغافلين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد