بسم الله الرحمن الرحيم
يقوم القانون الدولي على مبادئ هامة منها:
ـ مبدأ السيادة والاستقلال السياسي.
ـ مبدأ المساواة في السيادة لكل الدول.
ـ مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
وهي أيضاً المبادئ التي نصَّت عليها المنظمات الإقليمية، ومنها منظمة الوحدة الإفريقية. إلا أن الاتحاد الأفريقي المنظمة البديلة لمنظمة الوحدة الأفريقية اتجه اتجاهاً مغايراً للمبادئ التي قامت عليها منظمة الوحدة الأفريقية، ومن أهمها مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للأعضاء.
فوفقاً لهذه المتغيرات على الساحة العالمية عامة والساحة الأفريقية بخاصة أضحت مفاهيم أو مبادئ السيادة والاستقلال وعدم التدخل في الشؤون الداخلية تنحو منحى آخر، فطرأ تغيير كبير في مفهوم السيادة، وأصبح بإمكان الحلف الأنجلو الأمريكي استصدار قرار من مجلس الأمن " كما يسمى " تحت أيّ مسوّغ من المسوّغات بفرض العقوبات المختلفة على الدولة المعادية، والتي لا تدور في فلك الدول الغربية في بادئ الأمر، ويتطور الأمر لاحقاً إلى احتلالها، كما هو مشاهد الآن في أفغانستان والعراق، وما هو متوقع تجاه السودان وسوريا وإيران؟
فوفقاً للإستراتيجية الموضوعة من قبل اليمين الصهيوني في أمريكا وحلفائها في دولة الكيان الصهيوني، يجب إعادة تقسيم الأمة الإسلامية تقسيمات جديدة غير تقسيم سايس ـ بيكو، وفي ذلك يقول: " زئيف شيفي " المحلل العسكري اليهودي في صحيفة " هآراتس " في 2/6/1982م أثناء غزو لبنان: " إننا نعيش في محيط سنّي، ولذلك يجب على إسرائيل أن تتعاون، بل وتجند الأقليات العرقية والمذهبية في المنطقة المحيطة لخدمة المصالح الإسرائيلية، وأن تركز إعلامياً على أن الشرق الأوسط ليس بالمحيط العربي الإسلامي، بل يشمل أقليات متعددة ". (1)
وبناء على هذه الإستراتيجية التي وضعت منذ حين تم شنّ الحروب المتعددة مباشرة أو بالوكالة في العالم الإسلامي وتم تأجيج الفتن الداخلية وإذكاء روح العصبيات الجاهلية والمذهبيات الطائفية والدينية، ولم تكن السودان بدعاً من دول العالم الإسلامي، فاتٌّبِعَت معها كل الوسائل منذ الاستعمار الإنجليزي وحديثاً في العهد الأنجلو أمريكي، والذي تميّز بسياسة شد الأطراف، وفرض العقوبات، بل وقصف البنية التحتية كمصنع الأدوية في الخرطوم " مصنع شفاء "، وأخيراً التلويح بالتدخل العسكري تحت المظلة المشبوهة " هيئة الأمم المتحدة "!
مجلس السلم الإفريقي ودوره المشبوه في القارة:
لقد سبق تكوين هذا المجلس هيئات متعددة لحفظ السلم والأمن في ربوع القارة الأفريقية سواء كانت هيئات أفريقية خالصة أو هيئات غربية " فرنسية، بريطانية، أمريكية " تحت غطاء أفريقي، ولعل أشهر هذه الهيئات الغربية المبادرة الأمريكية لمواجهة الأزمات الأفريقيةAfrican Crisis Response Initiativeº، والتي أنشئت نتيجة لما حدث لأمريكا في الصومال. فتبنت هذه الهيئة بهدف تكوين وحدات عسكرية أفريقية تأتمر بأمرها في حل النزاعات في القارة، وتفرض أمريكا من خلالها هيمنتها على القارة، بعيداً عن حلفائها الأوروبيين.
وحينما أدركت الولايات المتحدة سواء في عهد كلينتون أو بوش الابن أن الهيمنة الأمريكية على القارة الأفريقية ليس أمراً سهلاً ولا يتم بالقوة العسكرية وحدها، لجأت إلى وسائل متعددة وجعلت من القوة العسكرية إحدى الخيارات وليست الخيار الوحيد كما حدث في الصومال. واتجهت نحو دعم هذا المجلس " أي مجلس السلم والأمن الأفريقي " الوليد دعماً مادياً، واستطاعت أن توجه هذا المجلس حسبما تشاء، ولذا كانت فرحتها غامرة عندما أُسندت رئاسة الاتحاد الأفريقي إلى أحد عملائها ومن أكثر الحكام فساداً في القارة، بدلاً من الرئيس السوداني والذي كان من المفترض أن يتسلم الرئاسة وفقاً للإجراءات الروتينية المتبعة في الاتحاد الأفريقي، بضغوط مختلفة على عدة دول في القارة، حتى يتسنى لها تنفيذ خططها بعيداً عن المناوشات. ومن أهم هذه الخطط تفتيت السودان إلى دويلات، وتفتيتها كذلك عرقياً وطائفياً، بل ومذهبياً. ولذلك لم يكن غريباً أن يقابل بوش زوجة الهالك قرنق في البيت الأبيض، وتطلب هذه العميلة ليس دعماً للسودان برفع العقوبات الأمريكية والغربية عنها، بل دعماً لما يسمى بدولة الجنوب المرتقبة، وفي نفس الوقت تم التأكيد على التشديد في العقوبات الصادرة من الأمم المتحدة على السودان، وعلى موافقتها المبطنة في إحلال القوات الغربية أو قوات الحلف الأطلسي بديلاً عن القوات الأفريقية!
إن التدخلات القليلة التي قامت بها قوات حفظ السلام الأفريقية في بعض البلاد الأفريقية لم تكن لحفظ السلم، وإنما كانت سبباً في تقعيد القاعدة الغربية الجديدة " الفوضى البنَّاءة "، فقد تسببت هذه القوات في كثير من الحالات التي تدخلت بها إلى تلاشي السلام والأمن بدلاً من إحلالهما، واشتراك هذه القوات في أعمال منافية للأخلاق بانتهاك الأعراض والمساهمة مع الشبكات الدولية في نشر الرذيلة والمخدرات وسط اللاجئين، بل إن بعض القوات العاملة في المناطق المسلمة كانت أعيناً وعضداً للمنظمات الكنسية وعلى رأسها " أوكسفام"! وما تم في الحالة العاجية ليس عنا ببعيد!
وبموجب قرار مجلس السلم والأمن الأفريقي القاضي بضرورة إرسال قوات لحفظ السلام في دارفور، فقد أرسل الاتحاد في يوليو 2004 حوالي 2370 جندياً، وقد تم زيادة العدد في أكتوبر 2004م إلى 3320 جندياً. وقد أضفى هذه الزيادة تحسناً في الوضع الأمني، كما جاء على لسان وزير الخارجية السوداني " لام أكول "، وقال: " بعد التحسن الكبير الذي شهدته الأوضاع في دارفور بفضل جهود الدولة ووجود القوات الأفريقية، قرر مجلس السلم والأمن في اجتماعه بتاريخ 28/4/2005م تعزيز التحسن الذي طرأ على الأرض برفع عدد القوات الأفريقية إلى 6171 عنصراً بنهاية سبتمبر 2005م بالإضافة إلى الشرطة الأفريقية بعدد 1560 فرداً وبذلك يكون إجمالي القوة الأفريقية المتواجدة حالياً 7731 عنصراً).
وهذه الزيادة العددية أضفت عبئاً مادياً جديداً على الاتحاد الأفريقي الذي يعاني أصلاً من شح مادي كبير، عندها أرسلت دول الحلفاء " أمريكا وبريطانيا وفرنسا "برسائل خفية إلى بعض المسئولين في الاتحاد الإفريقي بأنها على استعداد تام بدعم هذه القوات وسد العجز المالي في ميزانية هذه القوات، أو إحلال القوات الأطلسية بدلاً عنها، أو أن تساهم قوات الأطلسي بوسيلة أخرى بدور أكثر فعالية لها على الواقع مع القوات الأفريقية. علماً بأن بعض الشركاء للاتحاد الأفريقي تساهم مادياً في تحمل تكلفة هذه الحملة كالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، لذا كانت لها الحق في توجيه الرأي الأفريقي حسب الوجهة التي تريدها. طالما أنها هي التي توفر احتياجات هذه القوات!
إن الأشهر القادمة تحمل في طياتها الكثير تجاه هذه الأزمة، و ستزداد الخلافات بين دول القارة ما بين دول راضية بالتدخل الخارجي في القارة، ودول ترى أن من أمن أفريقيا وسلامتها عدم إدخال عناصر خارجية في أزماتها. ولكن الأقوال في جهة والأفعال التي تتم وراء الكواليس في جهة أخرى.
لقد عقد مجلس الأمن والسلم اجتماعه في شهر فبراير الماضي وتحت ضغوط غربية، وكان من المفترض عقد لقاء آخر له في الثالث من شهر مارس الجاري إلا أن لبعض الظروف الداخلية في الاتحاد ـ كما قيل ـ أدت إلى تأجيل اللقاء إلى العاشر من مارس الجاري، وسيتم في هذا اللقاء اتخاذ قرار نهائي عن وضع القوات الأفريقية في دار فور.
فهل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من فرض أمر الواقع بتدخل خارجي في دارفور، أم أن الاتحاد سيتعدى هذه المشكلة إلى برِّ الآمان! وخاصة أن بعض الساسة في المنظمة الدولية لهم رأي مغاير للتوجه الذي يقوده أمينها العام كوفي أنان، حيث قال: "يان برونك " ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان أن إرسال قوة يسيطر عليها الحلف الأطلسي لحماية المدنيين في دارفور سيكون كارثة محتمة "!
أما في أمريكا نفسها فقد بدأت الجهات النافذة في اليمين الصهيوني وغيره، في تهيئة الرأي العام الأمريكي إلى تقبل أمر التدخل السريع في السودان بحجج كثيرة، فقد دعا السيناتور الديمقراطي جوزيف بيدن ـ عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ـ المسئولين في الحكومة الأمريكية إلى قيادة المساعي الدولية لوقف قتل الرجال والنساء والأطفال الأبرياء في دارفور! وأضاف بيدن: أن "الحكومة السودانية تخلت عن سيادتها بإساءتها لشعبها بشكل منظم، ومحنة الضحايا هي الآن شأن كل دولة متحضرة في العالم".
فبهذه العبارات نجد أن مفهوم السيادة يتم اعتمادها من قبل واشنطن، وأنها هي الحامية الحقيقية لحقوق الإنسان كما في أبو غريب وخليج غوانتنامو في عصر اختلت فيه الموازين والمفاهيم، وأن الضحايا في فلسطين وأفغانستان والعراق ليسوا من شأن الدول المتحضرة!
ولا ننسى سابقاً المقولات التي قيلت إبَّان البدايات الأولى للأزمة، ومن ذلك ما صرَّح به الرئيس الأمريكي بوش: أن المعارك الأخيرة في منطقة دارفور السودانية فتحت صفحة جديدة في تاريخ هذا البلد المضطرب. على الحكومة السودانية أن توقف فوراً الأعمال الوحشية التي تقوم بها الميليشيات المحلية ضد السكان الأصليين وأن تترك المنظمات (الإنسانية) تصل إلى المنطقة"!
وكذلك ما صرَّح به رئيس الوزراء الفرنسي " دومينيك دو فيلبان ": " إن هذا النزاع في غرب السودان يجب أن يدفعنا إلى التعبئة لأنه يهدد استقرار المنطقة؟! "(2)
أما كوفي أنان فقد مهّد مبكراً لعملية التدخل الخارجي في الأزمة عندما قال: " إنَّ تحركاً عسكرياً من الخارج قد يُصبح ضرورة لوقف عمليات التطهير العرقي الجارية في دارفور". (3)
الدور المطلوب من الأطراف السودانية المختلفة:
إن دارفور مقبلة على مرحلة من أصعب مراحلها ـ إن لم تكن قد أقبلت عليها فعلاً ـ، وما يعتقده بعض أبنائها الذين ارتموا في أحضان الغرب ولدى الدوائر الكنسية، أنها مرحلة فاصلة في تاريخها حسب رأيهم ومن خلاله يتمكنون من تقرير الحكم الذاتي لها، وتوزيع عادل لثرواتها، إن لم يحصلوا على دولة مستقلة، وعلى افتراض هذه الرؤية ـ أي الاستقلال ـ فإن دارفور قد تتجزأ إلى أجزاء تتناحر فيما بينها لعوامل عدة ومعلومة للقاصي والداني، فلم تجمع أبناء هذه المنطقة سوى الإسلام، وعندما يرفع الإسلام من الحكم والفصل في قضايا المنطقة وتوكل الأمور إلى الكنائس ومجلس الأمن، فلن تكون حالها أفضل من حال العراق وأفغانستان!
وسط هذه الصعوبات التي تواجهها السودان، لن تنفع التنازلات ولن تجدي الشعارات البرّاقة المزخرفة التي أهلكت الحرث والنسل في الأمة الإسلامية منذ سقوط الخلافة الإسلامية، فشعارات مثل: سندحر كل من يعتدي على السودان، والسودان ليس هايتي أو العراق..أو التهديد بالانسحاب من الاتحاد الأفريقي"! الخ تلك الشعارات البراقة والخطب الجماهيرية! والتي تكررت في السودان وفي عالمنا الإسلامي كثيراً، وفي مناسبات مختلفة، ودفع الشعب السوداني المسلم الكثير الكثير جراء تلك الشعارات.فهل آن الأوان لأن تلتفت الحكومة السودانية أو الحزب الحاكم إلى نفسها، وتؤوب إلى رشدها، وتراجع حساباتها، بدلاً من تقديم التنازل تلو التنازل عن المبادئ الأساسية لهذا الدين والارتماء في أحضان الغرب، ورفع شعارات تُخدِّر بها شعبها:
(يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدٌّوكُم بَعدَ إِيمَانِكُم كَافِرِينَ * وَكَيفَ تَكفُرُونَ وَأَنتُم تُتلَى عَلَيكُم آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُم رَسُولُهُ وَمَن يَعتَصِم بِاللَّهِ فَقَد هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ, مُستَقِيمٍ,) [آل عمران: 100-101]
ولتكن شعار المرحلة الحقيقي للحكومة السودانية لا المزخرف قوله - تعالى -:
(فَفِرٌّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50]
يقول العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - تعليقاً على هذه الآية: "..... أي: الفرار مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يُحبٌّه ظاهراً وباطناً، فراراً من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة.....، فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب، وحصل له المراد والمطلوب ".
فهل الفرقاء المسلمين في السودان سواء في الحكومة أو في الأحزاب المعارضة أو الحركات المسلحة أن يكون التلويح بالتدخل في شؤون السودان فرصة لمراجعة الحسابات والفرار إلى الله، بدلاً من الفرار إلى أمريكا والطواغيت الأخرى، أم أنها لا تتعظ بكل هذه النذر والآيات، وتنطبق عليها المقولة المشهورة:
" إن العرب (أو المسلمين) لا يقرؤون و إذا قرؤوا ينسون "!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد