بسم الله الرحمن الرحيم
لقد ذاعت شهرتنا بين السجناء أننا طَبَّاخون مهرة ولذلك وجدنا من الضروري وبالقدر المستطاع أن نقدم بعض ما نطبخ إلى جيراننا من السجناء، وكنا نجتهد أن نوصل ذلك بشق الأنفس وبالتحايل في بعض الحالات لأننا طوال سجننا كنا معزولين عزلاً مطلقاً عن بقية السجناء لدرجة أن غرفتنا خاصة في الجلمة في قسم "مديرية السجون" كانت معزولة بواسطة بوابة صغيرة عن بقية غرف السجناء، وكان بقية السجناء ممنوعين من الكلام معنا أو مصافحتنا أو تبادل الطعام والخضراوات معنا، ومع ذلك كنا نتحايل على كل هذا التشديد.
فكنا نقدم بعض ما نطبخ إلى بعض السجناء الذين كانوا يثنون على جودة طبيخنا وكانوا يشكروننا على ذلك.
شاء الله - تعالى- أن تكون غرفتنا في الجلمة مجاورة لغرفة أخرى ولا يفصل بينهما إلا البوابة الصغيرة، وكنا شبه مقيمين في غرفتنا بينما تلك الغرفة المجاورة كانت بمثابة محطة للعابرين من سجون الشمال إلى الجنوب وبالعكس، أو محطة للقادمين من سائر السجون إلى محاكم حيفا، لذلك كانت وجوه النزلاء فيها تتجدد كل ثلاثة أيام أو كل خمسة أيام، وقد رأينا من الضروري أن نكرم كل من كان ينزل تلك الغرفة بإعداد فطور رمضاني لهم إضافة إلى الفطور الذي كنا نعده لأنفسنا!!
ولأن رمضان كريم فقد بارك الله - تعالى- بالخضراوات التي كانت بين أيدينا كالأرز والعدس والملح والمعلبات بحمد الله - تعالى- وما زلت أذكر يوم الأربعاء 27 أكتوبر 2004 المجتمع وهو اليوم الثالث عشر من رمضان الثاني الذي صمناه في السجن عندما أدخلت إدارة السجن إلى الغرفة رقم "8" المجاورة لنا مجموعة جديدة من السجناء، وجاء موعد الإفطار إلا أن إدارة السجن لم تكن قد وزعت طعام الإفطار على السجناء فأخذوا يصرخون مطالبين بطعام الإفطار سيما وأنهم كما قالوا لنا لم يتسحروا، لذلك فقد قمنا فوراً ريثما حضر طعامهم وقدمنا لهم البطاطا المسلوقة والبطاطا المهروسة مع طحينة وثوم وقدمنا لهم البندورة والبصل والفليفلة!
طعام لثمانية!
يوم الجمعة الموافق 5 نوفمبر 2004م وهو اليوم الثاني والعشرون من رمضان عندما استيقظنا الساعة الثالثة ليلاً، اكتشفنا أن جيراننا في غرفة رقم "8" لا يزالون مستيقظين يسمرون، ولأن الهدوء كان مخيماً على كل السجن فقد كنا نسمع حديثهم بوضوح تام، وقد آسفنا وأحزننا أننا سمعنا أحدهم يقول: "إن أكثر شيء أكرهه في حياتي هو جيش الاحتلال الإسرائيلي والحركة الإسلامية" فقال أحد زملائه في نفس الغرفة: "لماذا؟ " فأجابه فوراً: "لا أدري...هكذا... من الله"!! نعم سمعناه يتحدث بوضوح بهذه الكلمات!! علماً بأنه هو وزملاؤه قد نُقلوا إلى هذه الغرفة نقلاً مؤقتاً لعدة أيام تمتد من يوم الأربعاء إلى يوم الأحد، وقد حرصنا كل يوم أن نمدهم بوجبة إفطار من صنع يدنا تكفيهم وهم ثمانية!! كما حرصنا أن نمدهم بالفواكه والخضراوات!! ومع ذلك لم نندم على ما قدمناه ولم نتوقف عن مواصلة تقديم وجبة الإفطار والفواكه والخضراوات لهم لأن هذا هو واجبنا في رمضان الكريم وجزاؤنا على الله تعالى!! ثم إنه قد كان فيهم بعض الطيبين في أخلاقهم ومعاملتهم!!
وما زلت أذكر يوم الاثنين الموافق 8 نوفمبر 2004م وهو اليوم الخامس والعشرون من رمضان حيث اجتهدنا في هذا اليوم وكالعادة أن نمد جيراننا في الغرفة رقم "8" بما ينقصهم من طعام وشراب!! وقد زودناهم بحمد الله - تعالى -بالتفاح والبندورة والخيار والبصل والقهوة والمكسرات!! ثم سألناهم: ماذا ينقصكم؟! فعرفنا منهم أن بعضهم لم يكن يملك الملابس الداخلية ولا المناشف!! فقمنا بتزويدهم بها!! وكذلك زودناهم ببعض المشروب الغازي ونسأل الله - تعالى -القبول.
وكم كانت فرحتنا غامرة عندما وصلتنا يوم الأربعاء 17 نوفمبر 2004م بطاقة معايدة ممن كان من جيراننا في الغرفة المجاورة رقم "8" جاء فيها "الإخوة المأسورون خلف هذه السجون المظلمة، نطير إليكم رسالتنا هذه من غرفتنا المجاورة إليكم، وأول تحية بهذه الرسالة نقول لكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإننا إذ نثمن جهودكم الحرة والنيرة على ما قدمتموه لنا في الساعات الأولى لحديثنا معكم وهو طعامكم الطيب فإننا ندعو الله - تعالى- لكم بالفرج القريب والعاجل ولجميع الأسرى ونقول لكم: سدد الله خطاكم وبارك الله فيكم".
أكلة "الكلاج": لا شك أننا خلال هذا التواصل الإنساني الرمضاني مع السجناء قد اكتسبنا بعض خبرات فن الطبخ منهم، وعلى سبيل المثال فقد تعلمنا منهم كيفية إعداد طبخة "المغمورة" التي يسمونها " الزرب"، وقد قمنا بإعداد هذه الطبخة يوم الخميس 21 أكتوبر 2004 المجتمع وهو اليوم السابع من رمضان!! حيث أنهينا إعداد هذه الطبخة "المغمورة" قبل موعد الإفطار، وبعد أن أدينا صلاة المغرب وضعنا كل ما كان في الطنجرة في "سدر" واسع ومسطح فبدا فيه منظر شهي برز فيه اللحم والبطاطا والبصل والجزر والبندورة والثوم، وشاء الله - تعالى -أن يقترب أحد السجانين من باب غرفتنا، فلما أبصر طعامنا صاح منفعلاً: "يا سلام على طبخة الكبسة"!
ولا أنسى أن أذكر هنا أننا كنا نقوم ببعض التجارب لإعداد "الحلويات" بعد الإفطار!! ومنها تجارب ناجحة وأخرى فاشلة!! وعلى سبيل المثال اجتهدنا ذات ليلة من ليالي رمضان أن نعد أكلة " الكلاج" من المواد التي تيسرت بين أيدينا!! حيث استخرجنا الطبقة الداخلية البيضاء من رغيف الخبز، ثم عجناها بالماء وأضفنا لها قليلاً من الزيت والسكر والقرفة، ثم خلطناها جيداً، ثم قطعناها إلى قطع صغيرة، ثم حشونا هذه القطع بالجبن أو التمر ثم قليناها بالزيت حتى احمرت، ثم استخرجناها وغمسناها بسائل "القطر" وهكذا أصبحت جاهزة للأكل!! وبعد أن تناولنا "الكلاج" استشعرنا أنه طيب بحمد الله تعالى!! وكالعادة فقد قدمنا منه إلى بعض السجناء الذين استحسنوه كذلك!! ومن التجارب الناجحة عندما أعددنا "الكنافة"!! حيث قمنا يومها باستخراج حشو رغيف الخبز، ثم قمنا بتفتيته إلى قطع صغيرة، ثم بتجميعها مع قليل من الزيت حتى احمرت بعض الشيء، ثم قمنا بتقسيمها إلى طبقتين وضعنا بينهما ما تيسر من الجبن واللوز، ثم قمنا بقلي الطبقة الأولى حتى احمرت ثم قلبناها على طبقتها الثانية، ثم قمنا بقليها حتى احمرت ثم أضفنا عليها قليلاً من سائل القطر!! وهكذا أصبحت كنافة وأي كنافة تنافس كنافة المحروم!! ومن التجارب الناجحة عندما أعددنا "القطايف"!! حيث كنا نأخذ قطعتين من الخبز ونضع بينهما قطعة جبن صفراء طرية من قطع الجبن المثلثة!! كنا نضغط بعد ذلك على قطعتي الخبز جيداً!! ثم نقليها في الزيت حتى تحمر، ثم كنا نستخرجهما ونضيف عليهما بعضاً من سائل القطر!! ومن التجارب الفاشلة أننا حاولنا ذات ليلة أن نعد كعك رمضان إلا أننا فشلنا ولم يكن الكعك طيباً، بل كان قاسياً ومحروقاً وبعيداً كل البعد عن الكعك الذي نعده في بيوتنا!!
إفطار جماعي:
ولمن لا يعلم فإنه رغم التقييد الذي فُرض علينا وعلى غرفتنا إلا أننا كنا نجد الوسيلة لتقديم هذا الطعام والحلويات إلى سجناء آخرين!! كيف ذلك؟! كان لكل باب غرفة من غرف السجناء فتحة عمودية مستطيلة الشكل!! وقد صُنعت أصلاً كي يبقى باب الغرفة مغلقاً على السجناء وكي يدخلوا بواسطتها الطعام أو قناني الماء أو الأدوية إلى السجناء، فكنا نضع الطعام الذي نريد إرساله في سفط، ثم نخرجه من هذه الفتحة ونضعه على الأرض، ثم نطلب من جيراننا في الغرفة المجاورة أن يخرجوا من فتحة بابهم عصا الممسحة الطويلة بشكل يكاد يكون ملامساً للأرض ثم كنا ندفع بأيدينا السفط، وهو على الأرض باتجاه باب غرفتهم بقوة معقولة تكفي كي يرتطم بعصا الممسحة ثم بعدها كان الجيران يجرون السفط بتلك العصا حتى تصل إليه أيديهم فيأخذونه ويدخلونه إلى غرفتهم من فتحة بابهم!! وبطبيعة الحال كانت هذه العملية تتم تحت مراقبة ممر السجن خوفاً من أن يرانا أحد السجانين المتشددين فيصادر الطعام!! وكيف كنا نراقب ممر السجن؟! كنا نخرج من فتحة بابنا مرآة صغيرة عاكسة، وكنا بواسطتها نراقب الممر طوال عملية نقل الطعام أو الحلويات وفق الطريقة التي شرحتها!! وكان يحدث في بعض الأحيان أن يبتعد السفط أكثر من مرمى عصا المسح، فكنا نوجه حامل العصا بواسطة المرآة كيف يمد العصا وإلى أي اتجاه حتى ينجح بفضل الله - تعالى -أن يصطاد السفط الضائع والبعيد عن باب غرفتهم!! وللحق أيضاً أقول في بعض الحالات وفي بعض السجون كنا نجد استعداداً عند بعض السجانين أن ينقل الطعام هو بنفسه إلى السجناء الآخرين فكان يكفينا متاعب نقل الطعام وفق الطريقة التي شرحتها!! وللحق أقول فإننا مع مرور الأيام والليالي علينا في السجون ومن خلال خلطتنا مع السجّانين فقد تعرفنا على كل سجّان ومدى استعداده لنقل الطعام!! وعلى سبيل المثال لا أنسى عندما أعددنا ذات يوم طبخة فليفلة محشوة بالأرز المخلوط بسمك السردين "المعلبات" وكان ذلك في سجن "أشمورت" فطلبنا من السجان أن يوزع كل ما في الطنجرة على بعض السجناء فحملها مبتسماً وعاد إلينا بعد دقائق معدودات بالطنجرة، حيث لم يبق فيها فليفلة محشوة ولا مرقة فليفلة!!
وما زلت أذكر يوم الاثنين 3 نوفمبر 2003م وهو أحد أيام رمضان الأول الذي صمناه في السجن حيث زارنا في نهار ذاك اليوم المحامي زاهي نجيدات وأخبرنا عن مدى النجاح الباهر الذي كلل الإفطار الجماعي الذي قامت به الحركة الإسلامية عند بوابة سجن الجلمة تضامناً معنا وذلك يوم 2 نوفمبر 2003م، حيث شارك في هذا الإفطار أكثر من ألف صائم، وكانت البداية أن وقف هؤلاء الألف على جانب الشارع الرئيس المؤدي إلى حيفا لمدة نصف ساعة ورفعوا خلالها اللافتات المطالبة بإطلاق سراحنا!! الأمر الذي أحدث ازدحاماً في حركة السيارات، حيث كان جميع السائقين يتوقفون للحظات من أجل قراءة اللافتات!! ثم بعد ذلك سار الإخوة الصائمون مكبرين حتى بوابة سجن الجلمة، ثم خطب فيهم الشيخ كمال خطيب نائب رئيس الحركة الإسلامية والشيخ هاشم عبد الرحمن رئيس بلدية أم الفحم والشيخ عبد الكريم حجاجرة، وبعد أذان المغرب والصلاة، تناولوا إفطارهم على ما قسم الله - تعالى -، وخلال كل ذلك كانوا يدعون الله - تعالى - أن يفك أسرنا!! ولأن غرفة اعتقالنا كانت قريبة من بوابة السجن فقد كنا نسمع صوت التكبير وصوت الخطباء دون أن نتمكن من رؤيتهم!! وقد كان هذا النشاط بعد فضل الله - تعالى- رفعاً لمعنوياتنا في رمضان وإشعاراً لنا أننا لسنا وحدنا معزولين في مواجهة الظلم الصارخ والباطل القبيح الذي زج بنا خلف القضبان!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد