بسم الله الرحمن الرحيم
من أكثر القضايا إشكالية في النقد الأدبي هي حرية المبدع.. ما حدودها؟ كيف تتموضع؟
هناك من يفهم هذه الحرية ويمارسها إبداعاً بأن من لوازمها اختراق للثابت من اعتقاد وخلق ونظم اجتماعية .. ومن يؤيدون هذا الفهم لا يقرون بعلاقة الأخلاق بالإبداع، فهو في نظرهم لا يتضمن أي بعدٍ, أخلاقي، بل هو إبداع صرف... ويدفعهم هذا التصور للحرية إلى اختراق المحظور الشرعي والأخلاقي، ليخوضوا في حمأة البذاءة والسفول بدعوى الصدق والتصوير الواقعي لسلبيات المجتمع!!!
وهم بذلك يرون أن كل من يدعو إلى احترام الذوق والثوابت فإنما يكرس مفهوم (التابو) الذي لا يجوز اختراقه، والمقصود به (التابو الثلاثي:الدين، الجنس، السياسة) دون النظر في كيفية تناول هذه القضايا الثلاث...
وهذا التصور لمفهوم حرية المبدع يكشف عن مفاهيم مغلوطةº لأن الرؤية الواقعية الصادقة والكتابة الموضوعية والتقنية الفنية تؤدي بالضرورة إلى تقديم رواية جيدة فنياً وأخلاقياً في آن واحدº لأن المضمون الأخلاقي لا يتعارض مع الشكل النموذجي للنوع الأدبي. لذا فإن (معظم كتاب الرواية اليوم يشعرون باتصال وثيق بين الفن والأخلاق..) (بلاغة الفن القصصي : وين بوث . ص 437).
والحرية هي التزام بمبادئها، والتي من أهمها احترام الآخر، وعدم جرح مشاعره بكلام بذئ وسافل والهجوم على معتقداته وتسفيهها، وهذا الالتزام ليس بدعاً في كثير من الآداب العالمية، قديمها وحديثها، حتى أولئك الذين يؤمنون (بنظرية الفن للفن) يعملون في نطاق التزام من نوع معين يرتبط بوجهة نظرهم في الفن، وكل مذهب من مذاهب الفن أو الأدب يتحرك في إطار تصور معين، ويلتزم شكلاً وموضوعاً بقيم خاصة، يحرص عليها كثيراً ويدافع عنها..
فالذين يزعمون أنهم يرفضون الالتزام لأنه قيد على حرية الأديب، ومنافٍ, للقيم الفنية والجمالية، هم أنفسهم يلتزمون بقواعد ومبادئ، شعروا أم لم يشعروا واعترفوا به أم لم يعترفوا ...
والرواية – كأهم عمل إبداعي سردي – تتمتع بمساحة كبيرة يتحرك فيها المبدع دون الحاجة إلى اختراق الثابت، والدخول في مزالق غير حميدة، فهي ذات وظيفة أساسية اجتماعية وتاريخية - وقبل - فنية لدى جميع الشعوب في الماضي والحاضر بل والمستقبل لأنها (واجهة الشعوب ومرآتها، وهي المكتوب الذي يصور أدق سماتها وخصائصها، وهي أيضاً تلك اللوحة الناطقة التي يرى فيها الإنسان رسم انعتاق الذات من أحاديثها، وتحررها من فرديتها، وانعتاقها من سجن رؤيتها الضيقة، ودخولها إلى رحاب تعديتها ومطلقها، وإذا كان الإنسان يرى في الرواية هذا فلأنها مثال حي على انفتاح (الأنا) فناً، ودخولها إبداعاً في حوار مع (الأنت) الذي يتمثل في الآخر.. الآخر البعيد.. القريب.. الحاضر.. الغائب.. المتزامن تاريخياً.. الآني حضوراً.. والآتي مستقبلاً، وبكل اللغات، وفي كل الأوطان (مدخل إلى التحليل البنيوي)، (رولان بارت : ص : 6).
إذن حرية الإبداع تفتح أمام المبدع المساحات البيضاء ليبدع ويُمتع، وفقاً لقواعد مفتوحة، تمنحه الانطلاق، حرية داخلية ذاتية حيث التصوير المحلق لما يعتمل في أعماقه، وأعماق شخصياته، وحرية خارجية مفتوحة لا تتعدى على الثوابت والأخلاق، من أجل أن يتفاعل القارئ مع إبداعه، ويتواصل مع أطروحاته، ويستمتع بقيمه الفنية والجمالية. انتهى.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد